في منتصف الشهر السادس على بدء «حزب الله» حرب «مشاغلة» العدو «إسناداً» لغزة، آن أوان بدء فتح ملفات دفع لبنان إلى حربٍ مدمرة. الأسئلة مشروعة حول الثمن الكبير الذي يدفعه الجنوب وكل لبنان من قتلٍ وخراب، ويفترض التدقيق بنهج التعامي عن توقع الرد الوحشي الصهيوني وما أسفر عنه. قضايا متشعبة تتطلب مساءلة شعبية عميقة، لأن في ذلك تحديد السياق المفترَض للخروج من هزل الواقع التراجيدي الراهن! لقد آن أوان إدارة الظهر إلى لغة التحريض الخشبية ودعوات فحص دم لبنانيين مقهورين موجوعين يتم اتهامهم بالعمالة والخيانة لأنهم رفضوا الانجرار إلى حرب فرضتها أجندة المصالح الإيرانية!
الأحداث كبيرة ومتتالية تستوقف المتابعين وتفجِّر الأسئلة. مع تلاشي الآمال بهدنة رمضان، فإن غزة ولبنان والمنطقة أمام أخطر التوقعات، التي من مؤشراتها للبنان حدثان كانت بيروت مسرحهما.
الأول ما كُشِف من اجتماع مجلس حربٍ تمّ في بيروت ضم الحوثيين و«حماس»، وطبيعي أن يكون بالشراكة مع «حزب الله» ورعايته، قوبل بالتجاهل من بقايا السلطة التي تُتحف اللبنانيين بمواقف ذليلة. خطورة الاجتماع تكمن في استسهال جعل بيروت عاصمة علنية للمحور الإيراني؛ ما يعيد إلى الأذهان ما كانته يوماً عاصمة لـ«منظمة التحرير الفلسطينية» وحلفائها، والباقي معروف، لأن الجراح بالكاد اندملت!
أما الثاني، فهو لقاء نصر الله - قاآني، حيث، وفق «رويترز»، طمأن الأول الثاني بأنه «لا يريد أن تنجر إيران إلى حربٍ مع إسرائيل أو أميركا، وأن (حزب الله) سيقاتل بمفرده»! وراء هذا التسريب تبرئة ذمة لنظام الملالي لإبقاء إيران بعيدة عن أي استهداف؛ بعدم إعطاء إسرائيل ذرائع تتيح لها توجيه ضربة للمشروع النووي الإيراني تعطله أو بالحد الأدنى تعيقه، وكذلك تعيد تأهيل نتنياهو أميركياً... لذلك يأخذ «الحزب» المواجهة على عاتقه، وليتحمل لبنان، وقد بات ساحة مستباحة، تبعات مثل هذه المواجهة المدمرة!
ترى هل «مشاغلة» العدو «إسناداً» لـ«حماس» وما آل إليه الوضع في غزة من إبادة جماعية واقتلاع أهلها ورميهم للمجاعة ودمارٍ ممنهج لعمرانها تستحق جعل الجنوب أرضاً محروقة واستباحة لبنان ومضاعفة انهياراته، والحصيلة أن الثمن المخيف لم ينجح في حماية حياة واحدة أو بقاء سقفٍ واحد؟ وبأي حق تقرر «المقاومة الإسلامية» - قوة «فيلق القدس» أن الكلمة للميدان؟ وإلى متى إنكار الواقع والإفراط في التعامي عن النتائج الكارثية لحرب «المشاغلة» والتباهي بأن لا بحث بأي استحقاق لبناني قبل وقف نار حرب التوحش الصهيوني على غزة؟ لكن ماذا لو استمرت هذه الحرب أشهراً أخرى؟ وها هو نتنياهو يروِّج لاستمرارها عامين على الأقل، فهل لعاقلٍ أن يتصور ما ستكون عليه حال لبنان وأحوال البقية الباقية من اللبنانيين؟ خصوصاً مع ربط الوضع والمصير بما يمكن أن تقرره مصالح مجرم حرب كنتنياهو يدرك جيداً أنه من لحظة تراجع العمليات العسكرية ستتم محاصرته سياسياً وشعبياً، ويوضع تحت المساءلة والمحاسبة؟
كل «بروباغندا» التباهي بالأضرار في الجانب الإسرائيلي، وهناك أضرار حقيقية؛ نزوح عن المستوطنات وتعطيل أعمال وخرابٍ وخسائر عسكرية واقتصادية، تبقى أعجز من أن تغطي حجم المآسي التي أُنزلت بالجنوب بشراً وحجراً. سقط أكثر من 300 ضحية ومئات الجرحى وهجرة جماعية طالت الأهالي جنوب الليطاني وامتدت إلى شماله، وتجاهل متعمَّد للدمار الذي أصاب البلدات الحدودية، فتحولت إلى ما يشبه حزاماً أمنياً فرضه العدو بالنار من الناقورة إلى تلال كفرشوبا، يمر في نحوٍ من 50 بلدة وقرية، سيكون متعذَّراً على الأغلبية العودة لو توقفت الأعمال الحربية، بعدما فقدوا البيت والحقل، وباتت الأرض مزروعة بالقنابل، ولوث القصف بالفوسفور المنطقة والمياه الجوفية، بعدما أحرق ثروة من حقول الزيتون والكرمة والأحراج، وأتى على الثروة الحيوانية، ودمَّر لسنوات زراعة التبغ، إضافة إلى تشريد عشرات ألوف التلامذة، ومعاناة تجاوزت الاقتصاد الجنوبي إلى الوطني، في زمنٍ تستفحل فيه الانهيارات المالية والاقتصادية والاجتماعية التي لم تعرف أي محاولة لكبحها، ولو جزئياً!
لكن بين أكثر ما يثير الأسى والخوف هو ما تسبب به «حزب الله» من انقسام عمودي في الاجتماع اللبناني، نتيجة استئثاره بقرار الحرب والسلم وبدئه «ميني حرب» وضعت لبنان في عنق الزجاجة، تندرج في سياق المهام الموكلة إليه خدمة للأجندة الإيرانية ومشروع ملالي طهران لتأبيد هيمنتهم! المقصود ما بات عليه البلد اليوم مع مناطق واسعة يدير أهلها الظهر للحرب الدائرة والمآسي المتأتية عنها، مع تمسكٍ بنمط حياة معين للقول إن ما يقوم به «حزب الله» لا يعنينا ولا يمثلنا. ويترافق كل ذلك مع اتساع مروحة الانتقاد حتى ضمن ما يُسمى البيئة الحاضنة التي راحت تشكك بجدوى هذه الحرب.
يعرف «حزب الله» أن الشعارات؛ من «إسناد» غزة إلى «الدفاع» عن لبنان، وبينهما «توازن الردع» و«قواعد الاشتباك»، سقطت. المبادرة بيد الإسرائيلي الذي يتحكم بالميدان ويتسع في بنك الأهداف المستهدَفة، بعدما باتت مناطق واسعة، أبعد من جنوب الليطاني، خطرة على تحرك القيادات العسكرية. إنه وضع يحدُّ من قدرة «الحزب» على التقدم مع الانكشاف الأمني الاستخباراتي والفارق الكبير في القدرات العسكرية والطاقة النارية!
لم تسفر «المشاغلة» عن أي إسنادٍ حقيقي لغزة، بينما ارتداداتها على لبنان مخيفة، لا يبددها قول إن «مجتمع العدو بدأت مظاهر التعب عليه، وجيشه وسياسيوه تعبوا...». وكأن المجتمع اللبناني ينعم بالراحة والقدرة؟ وتُتوج هذه «البروباغندا» بمناشدة الأميركيين وقف الحرب، لأن الرئيس الأميركي «قادر بشحطة قلم أن يوقف العدوان على غزة»...! في حين أن الطريق الأقصر للحفاظ على ماء الوجه وحيوات الناس ومصالح البلد تتطلب وقف الاستفراد بالقرار وإنهاء هذه المغامرة، وتطبيق القرار الدولي من دون إبطاء!