إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

أنفٌ فرنسي وثلاث عيون

استمع إلى المقالة

رحلت قبل أيام الكاتبة والصحافية الفرنسية مادلين شابسال. ولو عاشت سنتين إضافيتين لبلغت المائة. وليس غريباً أنَّ خبرَ وفاتِها لم يكن مناسبةً للحديث عن رواياتها الناجحة بل تذكّر جميع المعلقين أنَّها كانت الزوجةَ الأولى للصحافي جان جاك سيرفان شرايبر، صاحبِ الكتاب الشهير «التحدي العالمي».

تعيد السينما العربية للمرة الثانية تقديم رواية «أنف وثلاث عيون» لإحسان عبد القدوس. ثم يأتي غياب مادلين شابسال ليخبرنا أنَّها كانت واحدةً من عيون ثلاث تعلَّقت بالأنف سيرفان شرايبر. رجل لامع سليل عائلة يهودية معروفة. أمه عمدة بلدة وأبوه يدير جريدةً اقتصاديةً. درس الهندسة دون أن يمارسَها. وحين احتل الألمان باريس التحق الأب والابن بالجنرال ديغول الذي قاد المقاومة من لندن. أراد الابن أن يكونَ نسراً وسافر إلى ولاية ألاباما الأميركية ليتدرّب على الطيران الحربي. لكنَّه لم يشارك في أي معركة. تمتَّع بالبزّة العسكرية الأنيقة دون أن يذهبَ إلى الجبهة. حجّته أنَّه لا يريد أن يموت محترقاً في دبابة.

الصحافة كانت سبيله إلى الشهرة. وسمحت له تجربته الأميركية في أن يتخصَّص في الحرب الباردة. نجح في الانضمام إلى صحيفة «لوموند» محرراً للشؤون الخارجية وقبل بلوغه الثلاثين أسّس «الإكسبرس». مطبوعة جاهرت بضرورة تخلّي فرنسا عن مستعمراتها. جاء لها بأقلام من وزن سارتر وكامو ومورياك ومالرو. الثلاثة الأوائل حصلوا على «نوبل». وبهذا الأسطول المدرّع بلغ توزيع الصحيفة 300 ألف نسخة.

وصل صيت «الإكسبرس» إلى واشنطن ولفتت انتباه السيناتور الشاب جون فيتزجيرالد كنيدي. أعجبته مقالات سيرفان شرايبر عن حرب الجزائر. كان جريئاً في رفض تسميتها حرباً أهليةً وكتب أنَّها حرب كولونيالية. ثم كانت مجلته أول صحيفة أوروبية تنشر صورة المرشح كنيدي على غلافها. وهو لما فاز بالرئاسة طلب من سيرفان شرايبر أن يساعدَه في تنظيم زيارته الرسمية لباريس. كان هناك تأثير متبادل بين الرئيس الأميركي والصحافي الفرنسي. وهو قد قلّده في اختصار اسمه بالأحرف الأولى منه «JJSS» على غرار «JFK».

السلطة والثروة تجذبان النساء. فإذا أضيفت إليهما الوسامة اكتمل الفخ. لاحقت جميلات باريس الصحافي المعروف واختار هو أن يتزوَّجَ مادلين شابسال، ابنة مستشار وحفيدة وزير. تلك كانت العين الأولى. شهدت تأسيس صحيفته عام 1953 وكتبت فيها مقالات في النقد الفني بتشجيع وتصحيح من العين الثانية التي سيأتي ذكرها. انفصل عنها لأنَّها لم تنجب وهو من عائلة تؤمن بنقل «جينات العبقرية» إلى الأبناء. لم تغفل عن العلاقة التي قامت بين زوجها وبين شريكته في تأسيس المجلة، الصحافية فرانسواز جيرو. حاولت مادلين الانتحار ثم تفرغت لكتابة روايات رائجة. تزوجت ثانية وهي في عمر 93 عاماً.

فرانسواز، العين الثانية، كانت رئيسة لتحرير مجلة «إيل» قبل أن تشارك في تأسيس «الإكسبرس». والدها صالح كرجي العراقي المولد كان مندوباً عن الطائفة اليهودية في «مجلس المبعوثان العثماني». تخلت عن لقب كرجي «الغريب» وقلبته إلى جيرو. تولعت بسيرفان شرايبر وعاشت معه علاقة من نوع غرام وانتقام. عشقته حد الجنون وكتبت أنه أكثر وسامة من نجمها المفضل روبرت ردفورد. عملت ليل نهار لكي تنجح مجلتهما ولم تفلح في الاستئثار بسيرفان شرايبر. تناولت حبوباً منومةً وقطعت شريان يدها لكنَّه مضى لكي يتزوج العين الثالثة، سابين دو فوكيير، سليلة الأرستقراطية. وهي قد أدَّت المهمة وأنجبت له أربعة أبناء ذكور، كل منهم لمع في مجاله.

كانَ آخر ظهور للأنف الفرنسي في جنازة فرانسواز جيرو، 2003، العين الثانية التي سبقته إلى الرحيل بثلاث سنوات.