سأل صديقٌ عن بيتِ أبي الطيب المتنبي:
ولم أَرَ في عيوبِ الناسِ (......)
كنقص القادرين على التمامِ
وهل الكلمة نهاية صدر البيت «عيباً»، أم «شيئاً»؟! متمنياً أن تكون الأولى، فهي أبلغ، وأوقع. وَصَدَقَ، لكنه رجع إلى خبير، فقال: الكلمة في الديوان «شيئاً»، وأخالُ السائل حزن على الجواب الذي لم يتمنه.
نقل لي السائل ما جرى، فقلت له: كان حرياً بك أن تسأل الطيب صالح!
تعجب صاحبي، وقال: ألم ينتقل الطيب إلى رحمة الله؟!
قلت له: بلى، لكن عشقه لأبي الطيب لا يموت، وتراثه الأدبي خالد. زادت علامات الاستغراب عند الرجل، فعاجلته: يكاد الطيب يكون من أكثر الناس معرفةً بدقائق شعر المتنبي، وله لطائف في شرح أبيات أبي الطيب، وفرائد في توجيه معانيه، لا تجدها عند غيره من المهتمين والشرّاح.
وللتدليل، أطلعته على ما كتب الطيب صالح في كتابه: «في صحبة المتنبي ورفاقه»، إذ قال: «كُنت أظن هذا البيت لأبي تمام:
وحَبَّبَ أوطانَ الرجالِ إليهِمُ مآربُ قَضَّاها الشبابُ هنالِكا
ولكنني أراهُ أحياناً يُنسب لشعراء آخرين، منهم ابن الرومي. هل يقوى ابن الرومي على مثل هذا؟ ثمّ ألا يمضي أبو تمام فيقول:
إذا ذَكَرُوا أوطانَهُمْ ذَكَّرَتهُمُ عُهودَ الصِّبا فيها فَحَنُّوا لذلِكا
لا أدري، فليس بين يدي الآن ديوان أبي تمام لأنظر فيه. ولكن، هذا شعرٌ نبيلٌ، وابن الرومي كان شاعراً كبيراً، ولم يكن شاعراً نبيلاً».
وقبل أن أكمل ما كتبه أديبنا الكبير، أقول: تأمَّل جمالَ تفريقِه بين الشاعر الكبير، والشاعر النبيل، وأَبدَعَ، فمن ذا ينازع في براعة ابن الرومي شاعراً؟! ومن ذا يسلم بنبله؟!
يواصل الطيب صالح: «وإذا كنتُ قد أوردتُ البيتَ الثاني على وجهه، فما قولك أن الشاعر كَرّرَ (ذكروا) و(ذَكَّرَتهُمُ)؟ أليس هذا عيباً في البيت؟
لذلك أنت تفضل، أن يكون بيت المتنبي:
ولم أَرَ في عيوبِ الناسِ عيباً كنقص القادرينَ على التمامِ
على هذا النحو: ولم أَرَ في عيوبِ الناسِ شيئاً
هكذا يرد البيتُ في أغلب طبعات الديوان. لا يا رعاك الله، المتنبي عظيمٌ، لا يقول (شيئاً)!
هذا شاعرٌ عَرَفَ دقائق أسرار لغة العرب، وما تحويه الكلمات من طاقات. كان يستعمل الكلمات كأنها عملةٌ غاليةٌ، ليست مثل جنيه السودان، وليرة لبنان، فلم يخشَ أن يقول (عيباً)، بعد أن قال (عيوب)، لأن في الكلمة الواحدة سعةً لمزيد من الإنفاق».
لا فضَّ فوك يا أستاذنا الصالح. لقد قال الطيب هذا الكلام بمنتهى البراعة، وإن سَأَلتَ عنها، أَحَلتُكَ إلى الكفوي في «الكليات»، إذ عدَّ البراعة: «كمالُ الفضلِ، والسرورِ، وحُسنُ الفصاحةِ الخارجةِ عن نظرائها».
في نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1992، استضافت «اثنينية» عبد المقصود خوجة بجدة، الطيب صالح، في أمسية تكريمية، فتحدث بعذوبة تشبه كتابته الرقراقة، قائلاً: أنا أطرب للشرف، ويأسرني النُبل.
قلتُ: وما ذاك إلا من قبيل المشاكلة، والتماثل، فطرب الطيب للشرف لشرفه، ألم يقل مولانا المتنبي:
وَشِبهُ الشَيءِ مُنجَذِبٌ إِلَيهِ وَأَشبَهُنا بِدُنيانا الطِغامُ
ومن جنس أسر النبل للطيب صالح، قول أبي الطيب:
وَقَيَّدتُ نَفسي في ذَراكَ مَحَبَّةً وَمَن وَجَدَ الإِحسانَ قَيداً تَقَيَّدا
وهذا بيتٌ جميلٌ، جليلٌ، نبيلٌ. كلنا يعلم أن فرار المتنبي من الفسطاط كان انتصاراً لحريته التي قيدها كافور، فكيف يذهب هنا للقيد بقدميه؟ ويُقيد نفسه بيديه؟!
لأنَّ الإحسان يأسر المتنبي، كما يأسر النبل الطيب صالح، أما عجز البيت فصار لروعته مثلاً سائراً، كما قال ابن الشجري، لنُبل المعنى وحُسن المبنى:
وَمَن وَجَدَ الإِحسانَ قَيداً تَقَيَّدا
ولا تحسبن قيد الإحسان، يتقيد به غير الكرام، فهذا السلوك من المسالك الخَدّاعة، تلك التي توحي لمن يسمع بها، بأن يظُن - لفرط جهله - أنه قادر على انتهاج المنهج ذاته. سجية كهذه، يمكن اعتبارها من السلوك «السهل الممتنع»، يبدو لكل من يسمع به، أنه يستطيع فعله، حتى إذا حانت ساعة الامتثال، نكص صاحبنا على عقبيه، موقناً أنه استسهل صعباً، فليس لمثل هذه الفعال إلا أهل الشهامة، التي عرّفَهَا الجُرجَانِي، بأنَّهَا: «الحرص على مباشرة أُمور عظيمة، تستتبعُ الذِّكرَ الجميل».
ومن رام شرفاً، فليُصْغِ لحكمة أبي الطيب:
وَما الحُسنُ في وَجهِ الفَتى شَرَفاً لَهُ إِذا لَم يَكُن في فِعلِهِ وَالخَلائِقِ