مع استمرار الهجوم الإسرائيلي الوحشي على المناطق الفلسطينية، لا سيما غزة، يعود طرح الحلول الجذرية التي تتجاوز مسألة الحلول الوقتية (وقف إطلاق النار، تحرير المحتجزين، إدخال المساعدات). ثمة حلول قائمة على الآيديولوجيا التي تفترض حلاً جذرياً يقوم على عقيدة (دينية أو قومية)، مستنداً إلى شرعية التاريخ.
لسنا هنا بصدد مناقشة ثنائية الحق والباطل، لأن إحقاق الحق المطلق يحتاج إلى قوة مطلقة. ما نناقشه هنا موضوع التسوية الذي ما زالت إسرائيل تنظر إليه بوصفه خطّاً أحمر لا تود حتى النقاش فيه.
لقد كانت اتفاقية «كامب ديفيد» 1979 خطوة مهمة لإسرائيل، لأنها تمكنت من انتزاع اعتراف من الدولة العربية التي واجهتها في أربع حروب ضارية. لم تشتمل الاتفاقية على أي ضمانات للحق الفلسطيني بسبب إصرار الإسرائيليين على إبقاء المعاهدة ضمن النطاق الثنائي.
قام العرب بقيادة المملكة العربية السعودية بطرح مبادرتين قبل وبعد اعتراف السلطة الفلسطينية بدولة إسرائيل. وفي مبادرة الأمير فهد عام 1981، تم التأكيد على حل الدولتين (على أن تكون القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية) وحق المهجّرين في العودة، وقد رفضت إسرائيل بشدة هذه الخطة ووصفتها بأنها مخطط للإجهاز على إسرائيل تدريجياً. وبالرغم من عدم تقديم إسرائيل أي تنازل بعد اتفاقية «أوسلو» 1993 التي اعترفت فيها منظمة التحرير بحق إسرائيل في الوجود، فقد التزمت المبادرة العربية التالية بالموقف الثابت.
في 2002، طرح الأمير عبد الله ولي العهد السعودي وقتها، مبادرة جديدة تؤكد على حل الدولتين شرطاً أساسياً لدخول إسرائيل ضمن نسيج منطقة الشرق الأوسط. وقد تعنت الإسرائيليون رافضين ذلك العرض.
وكما حصل بعد المبادرة الأولى، حيث طبّعت السلطة الفلسطينية، والأردن، فقد طبعت أربع دول عربية بعد المبادرة الثانية. ربما تقرأ إسرائيل في هذا أن سلطة الأمر الواقع هي مفتاح نجاحها في الاستمرار بسياسة التعنت.
إن الموقف السعودي الذي أعلن عنه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بمقابلته التلفزيونية في «فوكس نيوز» في سبتمبر (أيلول) الماضي، يؤكد ثبات الموقف السعودي تجاه حل القضية الفلسطينية الذي يتلخص في حل الدولتين ضماناً للحق العربي في فلسطين.
إن الاختلاف الرئيسي بين ما طرحه ولي العهد الحالي عن وليي العهد السابقين يتلخص في كونه قد طرحه موقفاً سعودياً ثابتاً وليس مبادرة إقليمية عربية. وهنا نقطتان يجب التوقف عندهما:
1- الموقف: أمر ثابت يختلف عن المبادرة، فالمسؤول السعودي يصرّح بسياسته بناء على المعطيات التي يمتلكها، ولا يقدّم عرضاً مرحلياً لأحد كما تفعل المبادرة السياسية.
٢- كونه سعودياً وليس عربياً، فالموقف هنا يعتمد على المصالح الوطنية ضمن الالتزام السياسي الأخلاقي لبلد يتمتع بموقع قيادي. بمعنى أن تصريح الأمير محمد بن سلمان يمثّل المملكة بصفتها القيادية الإقليمية دون الحاجة للتوافق مع شركائها في جامعة الدول العربية.
منذ انطلاق الحرب في 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، اتضح للعالم أن إسرائيل تقوم بعدوان شامل على الشعب الفلسطيني يتجاوز مسألة مواجهة «حماس» وبقية الفصائل المسلحة. إن عدد الأرواح الفلسطينية التي أزهقت جراء هذا العدوان يوضح طبيعة عنجهية إسرائيل ونظرتها للمحيط العربي. بالمقابل، فإن كثيراً من وسائل الإعلام العالمية ومحلليها يطرحون فكرة الاتفاق السعودي - الإسرائيلي رغم كل الدمار الحاصل.
إن المعطيات تشير إلى ثبات الموقف السعودي على حل الدولتين. رغم أن هذا الحل لا يرضي الأطراف التي تستند إلى أساس آيديولوجي، فإن هذا الحل الوحيد الذي تستطيع أن تقدمه قوى إقليمية تعتمد الدبلوماسية طريقاً للتسوية وليس الانتصار. أما بالنسبة للانتصار، فإنه يحتاج إلى مواجهة حربية ينهي فيها أحد الطرفين الآخر، وهذا ما لم يحصل منذ قيام الدولة العبرية في 1948.
ليست هذه دعوة للقبول بالأمر الواقع، ولكنها إضاءة حول الموقف السعودي الداعم للقضية الفلسطينية قبل اعتراف ممثليها بدولة إسرائيل وبعده. فالعربي يعرف تماماً أن إسرائيل كيان استيطاني غاصب لا يكتفي بالأراضي الفلسطينية، بل يتطلع لما هو أبعد، ولكن الدبلوماسية تفرض طرحاً متوازناً يتوافق مع تجنيب المنطقة حروباً شعواء.
ختاماً، فإن الموقف السعودي القائم على «لا تطبيع دون حل الدولتين» يرمي بالكرة في ملعب الإسرائيليين الذين يجب عليهم التفاهم مع راعيهم الولايات المتحدة. فإسرائيل ترعاها الولايات المتحدة التي تستطيع إجبارها على القبول بحل الدولتين إن ضغطت بما فيه الكفاية، أما السعودية فهي تنطلق من مواقفها الثابتة القائمة على مصالحها الوطنية والتزاماتها القيادية في المنطقة.