ادعاء لويس عوض - تفسيراً - في محاضرته الأميركية (التطور الثقافي في مصر منذ 1952) عام 1971، بأنَّ كتابة محمد حسين هيكل وطه حسين والعقاد في الإسلاميات كانت للرد على «الإخوان المسلمين»، وقوله بهذا التفسير قبل ذلك في محاضرته اللندنية (التطورات الثقافية في مصر منذ عام 1952) عام 1965، وقوله به لأول مرة في مقاله الرثائي «موت هرقل» بالعقاد عام 1964، يقوِّضه ما يلي:
كتاب محمد حسين هيكل (حياة محمد) الذي صدر عام 1935، بدأ محمد حسين هيكل نشر فصول منه ابتداء من 17 سبتمبر (أيلول) عام 1932، في جريدة «السياسة الأسبوعية» وانتهى من نشره فيها في 15 يونيو (حزيران) عام 1934، وكتاب طه حسين «على هامش السيرة» الذي صدر عام 1933 بدأ نشر فصول منه في مجلة «الرسالة» ابتداءً من 15 يناير (كانون الثاني) 1933. جماعة «الإخوان المسلمين» نقل حسن البنا مقرها الرئيس من الإسماعيلية إلى القاهرة عام 1932 في شهر أكتوبر (تشرين الأول)، وذلك بعد نقله من معلم في مدرسة ابتدائية في الإسماعيلية إلى معلم في مدرسة ابتدائية في القاهرة. أي أن هيكل بدأ نشر فصول كتابه (حياة محمد) قبل انتقال مقرهم الرئيس إلى القاهرة - التي كانوا غير معروفين عند نخبها وعند أهلها - بمدة وجيزة. وكان أتباع البنا الذين استطاع أن يكوّن بهم جماعة «الإخوان المسلمين» في الإسماعيلية من عام 1928 إلى عام 1932، كما حدد ج. هيوارث دن هويتهم الطبقية في كتابه «الاتجاهات الدينية والسياسة في مصر الحديثة» في حديثه عن بداية الجماعة هناك ليسوا من فئة النخب الثقافية أو النخب التعليمية أو النخب المالية أو النخب الإدارية أو النخب السياسية، بل هم من الأصناف الدنيا في المجتمع المصري. يقول ج. هيوارث دن: «لم تكن الإسماعيلية المكان المحتمل لبدء حركة إسلامية، لأنها كانت مأهولة في الغالب بالأوربيين الذين كانوا موظفين رسميين في شركة السويس. هنا بدأ حسن البنا بناء قاعدة مجموعته، والتي كانت دينية بحتة. كان معظم أتباعه من الخدم البربر والعمال وبعض أعضاء الطرق الصوفية، إضافة إلى قلة من الطلاب».
إن الستة الأولين الذين حضروا دروس حسن البنا كانوا من طبقة العمال، وقد توزعت مهنهم من «نجار» إلى «حلّاق» إلى «مكوجي» إلى «سائق» إلى «جنايني» إلى «عجلاتي».
في الطور الإسماعيلي للدعوة، فتح حسن البنا بعد سنتين من تأسيس دعوته شُعباً في نواحي الإسماعيلية القريبة، كأبي صوير، وبور سعيد، والبلاح. وبعد ثلاث سنوات من تأسيسها فتح شعبة في السويس. والمسافة بين الإسماعيلية والسويس هي أدنى قليلاً من 100 كم.
أما القاهرة، فقبل نقل مركز «الإخوان المسلمين» الرئيسي إليها، كان شقيقه عبد الرحمن الذي يرأس جمعية دينية صغيرة، اسمها في مصادر «جمعية الثقافة الإسلامية»، واسمها في مصادر أخرى «جمعية الحضارة الإسلامية»، لما رأى نجاح جماعة شقيقه في الانتشار في الإسماعيلية ونواحيها، طلب منه دمج جمعيته بجماعة «الإخوان المسلمين». وبعد هذا الدمج صار لجماعة الإخوان المسلمين شعبة في القاهرة، لكنها قبل انتقال المقر الرئيسي لدعوة «الإخوان المسلمين» إليها، لم يكن لها حضور وتأثير يذكران.
في كتاب «وجهة الإسلام» أو «إلى أين يتجه الإسلام؟» الذي صدر باللغة الإنجليزية عام 1932، والذي يبحث في الاتجاهات والحركات الإسلامية إلى عام صدوره لم يأت على ذكر جماعة «الإخوان المسلمين»، حتى ولو على نحو عابر، في حين أن ج. كامبفاير في بحثه «مصر وآسيا الغربية» المتضمن في هذا الكتاب خص جمعية «الشبان المسلمين» بمعظم حديثه عن مصر.
ج. هيوارث دن في كتابه الذي أشرنا إلى اسمه أنفاً، يقول: «بحلول عام 1947، كنت جمعت معلومات عن 135 من تلك المنظمات، والتي يمكن تصنيفها بشكل عام كالتالي: دينية، سياسية دينية، اجتماعية، تعاونية، مهنية، خيرية».
التنظيمات الدينية والتنظيمات السياسية الدينية - حسب تقسيمه - التي عدّد أسماؤها، بلغ عددها ستة عشر تنظيماً، فلماذا يفرد محمد حسين هيكل ابتداءً من عام 1932، وطه حسين في عام 1933 «الإخوان المسلمين» بالرد، من خلال كتابيهما: «حياة محمد» و«على هامش السيرة»، مع أن «الإخوان المسلمين» في ذينك العامين لم يكونوا متفردين بتنظيمهم من حيث محتواه الديني، ولم يكن لهم الهيمنة والسيطرة على بقية التنظيمات الدينية بنوعيها؟!
يقول ج. هيوارث دن: «بحلول عام 1939، كان حسن البنا قد استطاع التفوق على كل المجموعات في التنظيم والعدد والسمعة. وقد وضع بصمته على الحركة، بشخصيته القوية، وحينما ذهب أتباعه استطاعوا التغلب على المعارضين بطريقتهم الصارمة الواثقة، والتي اكتسبوها من قائدهم».
لويس عوض أكد ما قاله ج. هيوارث دن، وتناقض في الوقت نفسه مع أقواله الثلاث المكررة في سيرته الذاتية (أوراق العمر، سنوات التكوين) في حديثه عن ذكرياته الجامعية ما بين عامي 1933 و1934، حين قال: «وكانت هذه أيضاً بدايات الإخوان المسلمين الذين لم يكن لهم وزن في تلك الفترة ولم أعرف منهم يومئذ في كلية الآداب إلا عبد الحكيم عابدين الذي بدا لنا زعيماً بلا أتباع».
من تأسيس جماعة «الإخوان المسلمين» في الإسماعيلية عام 1928 إلى عام 1940، لم يصدر «الإخوان المسلمون» كتباً. فبعد انتقال مقر الجماعة الرئيسي إلى القاهرة عام 1932، أصدرت الجماعة رسالة موضوعها «القانون الأساس للإخوان المسلمين». وكتب حسن البنا رسالتين، الأولى كتبها بتاريخ 19 ديسمبر (كانون الأول) 1932، والثانية كتبها بتاريخ 3 يناير 1933. وأول مطبوعة أنشأوها كانت «جريدة الإخوان المسلمين». وهي في حقيقتها مجلة وليست جريدة لكن من باب التفاؤل أسموها جريدة على أمل أنها في يوم ما ستتحول إلى جريدة. هذه المجلة صدر أول عدد منها يوم 15 يونيو 1933.
أول كتاب صدر عن جماعة «الإخوان المسلمين»، هو كتاب «كيف ندعو الناس» لعبد البديع صقر. صدر عام 1940. وهو أقرب للرسالة منه إلى الكتاب. حاله كما هو حال رسائل البنا التي لا تنطبق عليها مواصفات تصنيف الكتب أو تأليفها.
وثاني كتاب هو كتاب «تذكرة الدعاة» للبهي الخولي. وقد قلت عنه إنه ثاني كتاب لأن هناك اختلافاً حول عام صدوره. فمن قائل إنه صدر عام 1940 إلى قائل إنه صدر عام 1943. هذا الكتاب كتاب أدعية وعظات وأذكار وليست فيه مباحث إسلامية جديدة أو تنظير إسلامي محدث.
إن رزية جماعة «الإخوان المسلمين» في عقد الثلاثينات وشطراً كبيراً من عقد الأربعينات في القرن الماضي هي الافتقار الشديد إلى صناعة التأليف الإسلامي. فرسائل البنا وخطبه ومقالاته ودروسه كانت لا تشفي غليل أتباعه. لأنها ما هي إلّا دعوة دينية عامة وعمومية للعودة إلى الإسلام وإلى القرآن وإلى السنة النبوية. لذلك حين ترجم عمر فروخ كتاب محمد أسد «الإسلام على مفترق الطرق» إلى العربية عام 1946، تلقفوه في حلقاتهم التعليمية يتدارسونه ويتذاكرونه لبضع سنوات. لقد تأخر التأليف في الإسلاميات عند جماعة «الإخوان المسلمين» إلى أواخر الأربعينات. فمحمد الغزالي ألّف كتابه «الإسلام والأوضاع السياسية» عام 1947، وألّف كتابه «الإسلام والمناهج الاشتراكية» عام 1948. والبهي الخولي ألّف كتابه «لا شيوعية ولا رأسمالية» عام 1947.
في أوائل الخمسينات الميلادية اجتمع لـ«الإخوان المسلمين» عدد من الكتب الإسلامية تكوّن مكتبة إسلامية صغيرة جداً، معظم كتبها كانت كتباً غثةً وضعيفةً من الناحية العلمية والمنهجية.
وفي عام 1949، كان عبد القادر عودة ابتداءً من هذا العام، انضم إلى ثلة المؤلفين البارزين في جماعة «الإخوان المسلمين»، بوصفه منظراً ثالثاً لـ«الإخوان المسلمين»، خصوصاً في المجال القانوني. الأول كان البهي الخولي والثاني كان محمد الغزالي.
ومن مطالعتي في المجلات الأدبية والثقافية الصادرة في مصر لم أصادف بين صفحاتها في المنتصف الأول من القرن الماضي عرضاً أو تنويهاً بكتاب أصدره أحد من أفراد جماعة «الإخوان المسلمين». وقد شذ عن هذا التوجه سيد قطب، إذ كتب عرضاً احتفائياً بكتاب الغزالي «الإسلام والأوضاع الاقتصادية» في جريدة «الوادي» في العدد 47 الصادر بتاريخ 18 أغسطس (آب) 1948. وكتب عرضاً وتعليقاً على كتابه الثاني «الإسلام والمناهج الاشتراكية» في مجلة «الفكر الجديد» في عددها الصادر بتاريخ 1 يناير 1948. وفي كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، الصادر عام 1949، أدرج سيد قطب كتابي الغزالي من بين ثبت المصادر في كتابه هذا.
سيد قطب كتب عن كتابي محمد الغزالي بصفته شيخاً أزهرياً شاباً وليس بصفته عضواً في جماعة «الإخوان المسلمين». وكتب عنهما لأنه كان في ذلك الوقت لا يزال يعمل على إعداد كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام» الذي موضوعه هو نفس موضوع كتابي الغزالي. وكان قبلها بسنوات، تحديداً ما بين عامي 1942 و1944، قد بدأ يكتب عن إسلاميات الليبراليين. التي اعتبر فيها إسلاميات العقاد هي الأنموذج الأعلى للكتابة في الإسلاميات!
لننظر في هذه التواريخ:
محمد حسين هيكل بدأ في نشر فصول كتابه «حياة محمد» ابتداءً من عام 1932، ونشره كاملاً في كتاب عام 1935، طه حسين أصدر الجزء الأول من كتابه «على هامش السيرة» عام 1933، وأصدر الجزء الثاني عام 1937، وأصدر الجزء الثالث والأخير عام 1938، وتوفيق الحكيم أصدر مسرحيته «محمد» عام 1936، والعقاد أصدر كتابه «عبقرية محمد» عام 1942، وكان في عام 1940 في شهر مارس (آذار) نشر موضوعين منه في مجلة «الرسالة»، الأول كان «عبقرية محمد العسكرية»، والثاني «عبقرية محمد السياسية».
في الموضوع نفسه في حقل الإسلاميات، وهو موضوع السيرة النبوية الذي كتب فيه بهذا التتالي لأسمائهم: محمد حسين هيكل، طه حسين، توفيق الحكيم، عباس محمود العقاد، كتب محمد الغزالي في وقت متأخر عنهم كثيراً كتابه «فقه السيرة» الصادر عام 1953.
يتبين لنا من خلال هذا العرض المختصر أن محمد يوسف نجم مترجم محاضرة لويس عوض «التطور الثقافي في مصر منذ 1952» إلى العربية أخطأ حين سلّم للويس عوض في ردّه عليه بتفسيره، فراح يقول – مدافعاً عن التراجم الإسلامية التي كتبها هيكل وطه حسين والعقاد –: الذي أتصوره أنها كانت تأييداً غير مقصود لهذا التيار الذي مثله «الإخوان المسلمون»، الذي بلغوا فيه حد التطرف. وتابعه في هذا التسليم سامي خشبة ومحمد محمود عبد الرازق في تعليقهما على محاضرة لويس عوض. أخطأ هؤلاء الثلاثة بالتسليم بتفسير لويس عوض، لأن تفسيره – كما ترون – هو تفسير اعتباطي يقوم على معلومات خاطئة ومخطئة. وللحديث بقية.