د. سعاد كريم
باحثة لبنانية
TT

العلاج باللمس هل يسكّن آلام أطفال غزة؟

استمع إلى المقالة

تبدو الحروب وكأنها ظاهرة ملازمة للمجتمع الإنساني، فالحرب لا تحدد من هو صاحب الحق، وإنما تحدد من تبقى، فهي مأساة يستعمل فيها الإنسان أحسن وأفضل ما لديه ليلحق بنفسه أسوأ الأذى، والحروب لا تولّد إلا دماراً وخراباً. هذا على الصعيد المادي، أما على الصعيد الإنساني فالحرب لا تولّد إلا موتاً وجروحاً وآلاماً جسدية ونفسية على البالغين والأطفال معاً، فضلاً عما ينتج عنها من مشاكل اجتماعية وتدهور اقتصادي ومالي وصحي واستشفائي وتربوي... كما تتسبب في تدمير الحياة الإنسانية والتراث الثقافي والاقتصادي إلى غيرها من النتائج المريرة.

طمع البشر، وجشعهم، وافتقارهم الإنسانية، وتخطيهم كل الحدود في صراعاتهم المدمرة؛ وربما حروب المصالح القاتلة... هي الأشرس، تصل تداعياتها المدمرة إلى الأطفال، وهم الفئة الأكثر تضرّراً؛ حيث تنشأ لدى هؤلاء أعراض نفسية وجسدية ومشكلات صحية وعقلية؛ أهمها ما لا نراه، ولا يمكن أن يُمحى من ذاكرتهم من دون علاج، وهو الأثر النفسي الذي يحمله الطفل في مخيّلته وقلبه ومشاعره وجسده، ومشهد بيتٍ مدمّر كان مأوى آمناً له ذات يوم، وأصوات وصراخ الأطفال يملأ صداه كل الأرجاء وأطفال يموتون وآخرون يتيتّمون فتغسل الدموع الدماء.

إن حرب الإبادة في غزة فاقت الوصف ولا توجد كلمة مناسبة نستطيع وصفها أو التعبير عنها، لكن السؤال المهم، هل فكرت الدول ذات المصالح التي تدّعي الإنسانية والحفاظ على حقوق الإنسان وحقوق الطفل ماذا سيحلّ بهؤلاء الأطفال الأبرياء وبمستقبلهم؟ فالحرب تحوّل الطفل إلى إنسان مسنّ نتيجة الخوف والرعب والدمار والدماء التي تزيل وتمحو البراءة والطفولة والشعور بالانتماء والأمان والحب والاستقرار فيصبح شخصاً ضائعاً فاقد الأمل والحب ويخاف الحياة نفسها، فكيف سيكمل هؤلاء الأطفال حياتهم وماذا سيحلّ بهم؟! هل سيؤخذون إلى بيوت إيواء أو دور أيتام أم سيُتركون لمصيرهم؟! هل سيجدون الحب والحنان والأمان والاستقرار، الذين هم في أمسّ الحاجة إليه؟!

أظهرت الدراسات والأبحاث أن اللمس له تأثير قوي على أدمغتنا وأجسادنا أكثر مما كنا نتخيّله، لذلك من المهم أن نكون مدركين كيفية تأثير أشياء بسيطة كالعناق والاحتضان وتشابك الأيدي على مشاعر من نحبهم. فاللمس فعّال جداً عندما يتعلق بتخفيف الألم النفسي والجسدي أيضاً، حيث يكون طريقة رائعة لتهدئة وتسكين الآلام والأوجاع. وتصنّف الدكتورة تيفاني فيلد، مديرة معهد أبحاث اللمس في جامعة ميامي، اللمس بأنه هو «أم كل الحواس».

اقترحت إحدى الدراسات التي نُشرت عام 2014 في مجلة «Psychological Science» أن تقليل التوتر والضغط الذي يوفّره العناق له تأثير وقائي ضد أمراض الجهاز التنفسي، إذ تمتد فوائد اللمس إلى مقاييس الصحة البدنية والنفسية والعلاقات الاجتماعية. وقال الباحث الهولندي ساندر كول: «تُظهر النتائج التي توصلنا إليها أنه حتى لمس شيء غير حي كالدمية يمكن أن يخفّف من المخاوف، لأن اللمس يُعتبر آلية قوية تساعد على غرس الشعور بالأهمية الوجودية لدى الإنسان». كما كشفت أبحاث أخرى أن التفاعل غير اللفظي للمودة الذي يتضمن أفعالاً كالضم والعناق والتقبيل وغيرها يمكن أن يخفّف من تأثير الإجهاد والتوتر، كما أن الرغبة في احتضان شخص ما في علم النفس تؤدي إلى زيادة التعاطف، حيث أوضحت الدراسات كيف يحرّك «هورمون الأوكسيتوسين» شعور التعاطف حتى بين الغرباء. فبمجرّد أن تعانق شخصاً ما يتمّ إفراز «الأوكسيتوسين» في الدماغ مما يثير شعور التعاطف، كما أن حاسة اللمس لدى الإنسان تربطه مع العالم الخارجي، حتى وإن كانت كل حواسه معطلة أو شبه معطلة؛ «فاللمس يستطيع أن ينقل المشاعر القوية بشكل أفضل من الكلمات أو الإيماءات أو تعابير الوجه».

أضف إلى ذلك أنّ الثقافات المختلفة تستخدم اللمس بطرق مختلفة لإظهار الاحترام والتقدير، بينما يستخدمه آخرون بوصفه سبلاً للتواصل. وقد أوضح الباحثون أن «اللمس لا يؤدي في جميع الأحوال إلى مشاعر إيجابية، لأنه في بعض الثقافات قد يُفسَّر على أنه خرق للمساحة الشخصية، وليس مناسباً بين الغرباء، كما أنه يمكن أنه يُعتبر انتهاكاً أو تحرّشاً».

اللمسة ضرورية لحياة الإنسان. فاللمس يُعدّ أول تواصل للطفل الوليد في داخل رحم أمه، ومن ثم بالعالم، ويمنحه شعوراً بالأمان والانتماء، حيث إن للمس تأثيراً على جهاز المناعة وعلى المشاعر تجاه الآخرين. هذا وقد أكدت دراسة من السويد على أهمية العناق واللمس بالنسبة للأطفال الذين يشعرون بالضيق أو التوتر، فيسمح للطفل باستعادة الإحساس بالأمان والطمأنينة. لذا هل يدرك العالم أن اللمس له إمكانية علاجية قيّمة؟

وقد تبيّن أنه كلما زاد التصاق الطفل بوالديه خلال الأشهر الأولى، تطور بشكل أفضل، وينضج دماغه ليصبح الطفل مستقلاً في السنوات التالية. كما تبيّن أيضاً أن الأطفال الذين لم يحصلوا على اتصال جسدي من احتضان وعناق وغيرهما، والمقيمين في دور الرعاية أو دور الأيتام أو غيرها الذين تمّ تبنّيهم بعد الرضاعة، أظهروا انخفاضاً بالمهارات اللغوية والمعرفية لديهم مقارنة بالأطفال الذين تمّ تبنّيهم بعد الولادة مباشرة أو بعد فترة وجيزة، وغالباً ما أظهر هؤلاء الأطفال تأخيراً في النمو الجسدي والنفسي. لذا الحاجة إلى وجود الوالدين في حياة الطفل عامل هامّ وأساسي منذ ولادته وحتى مماتهما.

فهل يا تُرى سيلقى طفل غزة الذي فقد أحد والديْه أو كليهما العناق والعطف والحنان في حضن دافئ محب؟!

* باحثة لبنانية