يقول إيلينور روزفلت إن «العقول الكبيرة تناقش الأفكار، والعقول المتوسطة تناقش الأحداث، والعقول الصغيرة تناقش الأشخاص». تفتح هذه المقولة لمتأملها نافذة على آفاق الحوار، ومقدرة العقل البشري على استيعابه.
في خضم النقاشات العميقة، ينسحب البعض ممن أخفق عقله في إدراك ما يجري. ويلوذ آخرون بالصمت أمام المقدرة العجيبة للبعض على التفكير في أمور معقدة. ويؤثر آخرون التندر لأنه أسهل مخرج من حوار لا يمكن مجاراته! وهو ما يعني أن التفكير البشري يأتي بأشكال متعددة، كلها مهمة لإثراء التجربة الإنسانية ومتخذي القرار.
فهناك التفكير النقدي، وهو تحليل الأفكار بعمق وتقييمها منطقياً. مثل التساؤل حول صحة الأخبار ومصادرها قبل قبولها كحقيقة. ولذلك يقول سقراط: «ليس السؤال الذي يخيفني؛ بل الإجابة»، وهو ما يكشف عمق هم التفكير النقدي الذي يحمله واحترامه للجمهور. فدور المستشار مثلاً أن يكون أميناً في نقده ليظفر المسؤولون بخلاصة عميقة وموضوعية للأحداث.
أما التفكير الإبداعي فصار في غاية الأهمية؛ لأنه توليد لأفكار جديدة وغير تقليدية. ولذلك يصف آينشتاين الإبداع بأنه «رؤية الخفي»، وربما كانت مدينة «ديزني لاند» وأيقونتها «ميكي ماوس» خير مثال. وفي عصرنا لو لم يفكر ستيف جوبز بطريقة غير تقليدية لما كانت بين أيدينا هواتف تحولت من أداة اتصال إلى نافذة على العالم والمعرفة. ورغم أنه كان يوصف من قبل مرؤوسيه بأنه عنيد جداً، فإن ذلك العناد كان وراءه تفكير خلاق لم نستوعبه إلا بعد عقود من رفع جوبز لهاتف «آيفون» عام 2007 الذي غير وجه العالم والمنافسة.
وهناك أيضاً التفكير التحليلي، وهو فك الأفكار إلى مكونات لفهمها بشكل أفضل. مثل تجزئة تقرير مالي لتحديد أسباب الخسارة، أو الاستفادة من بيانات المبيعات الهائلة لتحليل سلوك المشتري، وتقديم خيارات تلبي حاجاته ورغباته. والتوجه الذي سوف يذهل العالم قريباً هو كيف ستستفيد الأمم من البيانات الضخمة «big data» فهي تحمل كنوزاً كامنة. وتلك البيانات بحاجة إلى عقول وآلات لتحلل كل لقطة وبصمة وصوت وصورة، لتتحول إلى معلومات مفيدة.
أما التفكير السطحي فهو إعمال العقل بشكل بسيط لا يخوض في التفاصيل. مثل قبول فكرة دون تساؤل؛ لأنها تبدو ظاهرياً صحيحة، أو مثل من يحكمون على الكتاب من غلافه من دون قراءة محتواه. ولكننا بوصفنا بشَراً عبرنا على جسر السطحية في مقتبل العمر، ثم صقلنا عمق التجارب والقراءات، نصعق حينما نرى سطحيين حول متخذ القرار!
وقد أدرك الإنسان على مدى قرون ضرورة حماية نفسه وأمته، فتعلم التفكير الاستراتيجي في أرض المعركة، من منطلق الدفاع عن وطنه ونفسه. ثم أصبح سبباً للبقاء في دائرة التنافس التجاري والمهني. ولذلك نتساءل: كيف تريد حكومة أو مؤسسة خاصة التقدم في ميادين التنافس من دون خطة استراتيجية؟!
وهناك تفكير بدأ يلقى رواجاً كبيراً في أدبيات الغربيين، وهو ما يطلق عليه «التفكير العاكس» أو «Reflective Thinking»، أي التأمل في الخبرات الشخصية لاستخلاص الدروس والعبر. كمراجعة المرء لأدائه في مشروع ما، وتحديد مجالات للتحسين.
من دون هذه الوقفة الهادئة، سوف تطوي السنوات أعمارنا من دون أن نجد سويعات نقوِّم بها مسارنا وسلوكنا. هذه الأوقات أثمرت في تغيير وجهات عظماء نحو حاجاتهم ورغباتهم وشغفهم، فتألقوا في ربوع المجد.
عندما يحيط متخذو القرار أنفسهم بخيرة العقول، ويمنحونهم آذاناً صاغية، وبحبوحة من حرية التفكير بشتى أشكاله، سيكون في مقدورهم استيعاب ما يجري في هذا العالم المتسارع، الذي لم يعد فيه مكان للزعيم الذي يفكر بعقلية فردية.
