عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

الذكاء الاصطناعي والديمقراطية

استمع إلى المقالة

لماذا الخوف من الذكاء الاصطناعي، وتحذير السير روبرت بكلاند، وزير العدل البريطاني السابق (2019-2021) من خطورته على أمن البلاد قبل الانتخابات المقبلة؟

الذكاء الاصطناعي تحول إلى مسألة خلافية بين متحمس له ومتوجس منه؛ هل هو رد الفعل المعهود لأي تطور تكنولوجي منذ اختراع العجلة، أو ما يسمى لاحقاً «ثورة»؟

أم أن خصوصيات الذكاء الاصطناعي تختلف عن الثورة الصناعية، أو عن ثورة الموضة التي تجتاح المجتمعات بعد أحداث جسيمة كالحروب العالمية؟

النظر بعيون المتحمسين للذكاء الاصطناعي يشابه الترحيب بتطور تكنولوجيا زيادة الإنتاج وقت الثورة الصناعية قبل قرنين من جانب المستثمرين والبنوك التي أقرضتهم لمشروعات تطوير الاقتصاد الريفي إلى صناعي إنتاجي محققين أرباحاً طائلة.

المعارضون وقتها توجسوا لدوافع مشابهة، لأن التطور أضرَّ بمصالحهم؛ وفي أحوال كثيرة حطم العمال الماكينات الجديدة لتسببها في بطالة الكثير منهم.

المتوجسون من الذكاء الاصطناعي اليوم دوافعهم متعددة، منها من يتشابه مع المتوجسين من تطورات تكنولوجيا الثورة الصناعية، لكن الأمر اليوم أكثر خطورة. العاملون الذين أفقدتهم تكنولوجيا الثورة الصناعية وظائفهم سرعان ما وجدوا وظائف أخرى بسبب ازدياد الاستثمار في صناعات جديدة وانتشار خطوط الملاحة والتوسع في بناء السكك الحديدية والمواصلات وحركة تصنيع واسعة.

لكن الحال تختلف اليوم فهناك تقلص في التصنيع والإنشاءات التي تخلق وظائف بسبب سيطرة هوس التسخين الحراري على التفكير الجماعي في الأمم الصناعية المتقدمة، وتقليص استخدام المواصلات، والعولمة التي أدت إلى نقل التصنيع إلى بلدان العالم الثالث والصين والهند، بجانب أن طبيعة الأنساق الإنتاجية اليوم تعني أن من يفقدون أعمالهم ووظائفهم بسبب هذا التطور لن يجدوا وظائف في مراكز التشغيل الجديدة التي تدار بالذكاء الاصطناعي لأنها مصممة للاستغناء عن الإنسان. فالوظائف ستكون في المراكز الاستهلاكية والخدمات، التي يشغلها صغار السن والمهاجرون بأجور أقل.

لكن التوجس الأكبر من الذكاء الاصطناعي، هو من خطورته على أمن البلاد، خصوصاً على الديمقراطية عشية وأثناء سير العملية الانتخابية.

وهنا يكون الاختلاف الكبير عن عصور الثورات التكنولوجية لأنها في كل تطور أو طفرة يصاحبها تغير في تركيبة المجتمع.

الثورة الصناعية أدت إلى نمو المدن وانتشار التعليم. وبالتالي، كانت من أهم العوامل المحركة لتطور ونمو الديموقراطية والتمثيل النيابي ووصول صوت من كان لا صوت لهم، لقرون طويلة، إلى البرلمان حتى قدروا على تشكيل حكومات تمثلهم تمكنت من إزاحة أصحاب الامتيازات من السلطة عبر صناديق الاقتراع. وهنا تكمن المفارقة، بتحذير وزير العدل السابق بكلاند، ليس لقدرة برامج الذكاء الاصطناعي على تزوير النتائج، لأنه أمر مستبعد لطبيعة الإجرائيات في بلد كبريطانيا، بل لأسباب أخرى.

أهم ما حذر منه بكلاند هو قدرة هذه البرامج على خلق تصريحات مزيفة أو مستفزة للناخب تضعها على لسان ساسة ومرشحين بحيث تبدو طبيعية جداً. فهذه البرامج خلقت نماذج إلكترونية لمذيعين وممثلات يطابقن الحقيقة ويقدمن الأدوار والشخصيات ونشرة الأخبار البديلة بشكل طبيعي ولا يشك أحد في أنها مختلقة.

أيضاً طبيعة حصول الناخبين، خصوصاً الشباب منهم، على المعلومات من وسائل غير تقليدية تجعل تصريحاً مزيفاً عشية الانتخابات لا يتمكن السياسي من تصحيحه في الوقت المناسب ينتشر كالنار في الهشيم بين نسبة من الناخبين كافية لتغيير النتيجة.

ففي تقرير معهد «رويترز» لوسائل الأخبار صدر قبل خمسة أشهر اتضح من الإحصائيات أن وسائل التواصل الاجتماعي كـ«توتير»، و«توك توك»، و«إنستغرام»، و«يوتيوب»، هي المصادر الأولى للأخبار لـ30 في المائة من الناس، بينما تناقصت نسبة من يسعون لاستقصاء الأخبار مباشرة من مصادرها أو من الوسائل التقليدية من 53 في المائة إلى 22 في المائة فقط في ثماني سنوات.

كان «فيسبوك» مصدر أخبار 71 في المائة من الشباب (18-24) قبل ثماني سنوات تناقصت إلى 38 في المائة هذا العام، بينما أكثر من ثلثيهم يلجأ لوسائل مثل «تيك توك»، و«سناب تشات» و«إنستغرام».

لعل أهم سبب هو قصر فترة تركيز الناخب الأصغر سناً؛ فبحث مؤسسة «ميكروسوفت» وجد أن فترة التركيز لجيل التليفون الذكي تناقصت من 12 ثانية عام 2000 إلى ثماني ثوان فقط عام 2015. وبالإضافة إلى أن أجيال التليفون الذكي والتواصل الاجتماعي لا تتحمل الفقرات الإخبارية في الوسائل التقليدية، (ما بين دقيقة إلى دقيقتين) المألوفة للأجيال الأكبر سناً، فإن جيل الألفية (دون الثامنة عشرة) يفضلون «سناب تشات» و«تيك توك» على «فيسبوك»، مما يفسر تناقص نسبة الأخير مصدرَ أخبار إلى النصف في ثماني سنوات.

أجيالنا عاشت الأحداث ويرجعون إلى الكتب فيتمكنون من كشف المعلومات التي قد يزيفها الذكاء الاصطناعي وتصحيحها، وهو أمر تزداد صعوبته بتناقص الأعمار بين ثلاثة أجيال من الشباب: الإنترنت والتليفون الذكي (30 – 45 عاماً)، التواصل الاجتماعي والتليفون الذكي (دون الثلاثين)، وجيل الذكاء الاصطناعي (دون السادسة عشرة)، ومعظمهم يتواصل عبر أجهزة محمولة، ونادراً ما يراجعون الكتب الكلاسيكية، وربما يقلص الذكاء الاصطناعي فترة تركيزهم إلى ما دون ثماني ثوانٍ، أو يقودهم، معدومي التركيز، نحو ما نجهله تماماً!