أحمد محمود عجاج
TT

حقوق الإنسان... ماضياً وحاضراً وآتياً

استمع إلى المقالة

تزامنت مؤخراً الذكرى السنوية الخامسة والسبعون للإعلان العالمي لحقوق الإنسان مع أحداث غزة الجريحة، والحرب الدائرة في أوكرانيا، ومع تنصل بريطانيا الديمقراطية من اتفاقية اللاجئين، ومع صعود مخيف لليمين المتطرف في الغرب. هذه الأحداث دفعت كثيرين للتشكيك بالقانون الإنساني، لدرجة أن بروفسوراً لبنانياً تأسف على تدريسه هذه المادة لطلابه. للأسف هذا الشعور أصبح طاغياً على العقل الجمعي، لدرجة أن من ينادي بحقوق الإنسان يستجلب لنفسه السخرية، ثم دعوته ليكن واقعياً! هذه معناها أن يخفض سقف توقعاته. لكن المتمعن في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 10 ديسمبر (كانون الأول) 1948، عليه أن يكون واقعياً بمعنى آخر: يرى ما كان وما هو كائن وما سيكون؛ فالإعلان تولدت منه سبعون اتفاقية دولية تغطي نواحي إنسانية مهمة، منها اتفاقيات حظر التعذيب، وحماية اللاجئين، وحقوق المرأة، والعمال وغيرها.

عالمنا أفضل بكثير بالمقارنة مع الماضي، فلا توجد دولة الآن لم تُدرِج في قوانينها ودساتيرها مبادئ الإعلان العالمي، وتلك أصبحت مسلمة لا جدال فيها؛ فمن منا يؤمن بأن الرق مقبول، ومن ينكر حقوق المرأة، أو يشرعن سرقة العمال، أو امتهان كرامة البشر؟ قبل الميثاق كان التعذيب عادياً بل تسلية مطلوبة، ومن يراجع التاريخ يجد أن الرومان كانوا يرمون السجناء والعبيد إلى الأسود لتفتك بهم وسط تهليل الناس وفرحهم؛ كان التعذيب مقبولاً وضرورياً، ولا يجد أحدٌ غضاضة أن تُفسَّخ بالقوة أعضاء الإنسان، أو يُرمى في السجن ليموت جوعاً وعطشاً أو تحرق الساحرات أحياء. لا أحد يقْرُّ الآن تلك الجرائم، بل نعدّها من عصر بائد. هذا يثبت أن البشرية تسير في خط تقدمي تصاعدي وإن اعترته أحياناً تعرجات مؤلمة. ففكرة الحقوق الإنسانية الأساسية ترسخت في مسار البشرية ولم تعد حقوقاً قابلة للتغير، بل هي حقوق طبيعية لا يمكن التنازل عنها ولا تعديلها؛ هي قانون إنساني يشمل كل البشر، كما جاء في الإعلان دونما تمييز على أساس اللون أو العرق أو الدين أو القومية... إلخ.

لعل المحفز الأكبر لتقدم حقوق الإنسان يعود لفكرة الأمل؛ فالأمل، كما تقول الفيلسوفة سوزان نيومن، أن ترى معوقات الواقع ثم تعمل على تغييرها بهمة ونشاط. هذا «الأمل» نراه في الجموع البشرية التي نزلت إلى شوارع أوروبا وأميركا، ودول أخرى، تطالب بوقف إطلاق النار في غزة، وبمحاكمة مجرمي الحرب، وبإيصال الإغاثة إلى المتضررين. والأمل يردفه الغضب المتجلي بوجوه المتظاهرين، لأنه، كما تقول الفيلسوفة حنا ارنت، ليس «رداً عفوياً على المعاناة والمآسي، بل إدراك من الغاضبين بأن مفهوم العدالة يتقوض أمامهم؛ وهذا مؤشر على ترقي مفهوم حماية العدالة. ففي الستينات كان عدلاً ألا يجلس الرجل الأسود في حافلة بجانب الرجل الأبيض، لكنه يثير الآن الاشمئزاز والغضب. وهذا يعود إلى تطور مفاهيمنا للأخلاق، وإلى إيماننا بنموذج ثابت نقيس عليه تصرفاتنا؛ لذلك فإن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أصبح النموذج الأخلاقي، وعلينا تطويره، وتحسينه، وليس نقده أو نسفه بحجة أن دولاً تنتهكه. وهكذا فإن مأساة غزة، وجرائم الاحتلال محفز لنا لنجعل القانون الإنساني المسطرة التي بها نقيس التصرفات، وعلى أساسها نخوض معركتنا لحماية الإنسان، ومحاسبة من أهدر كرامته، وقتله، ودمر ممتلكاته؛ هذه المعركة ضرورية لكي يبقى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ذا معنى، وبذلك علينا أن نتذكر أنه قبل غزة وقعت مآسٍ مريعة في سوريا، وفي العراق، وقبلهما في البوسنة والهرسك؛ ولنتذكر أن مجرمي البوسنة الرئيس ميلوسوفيتش وميلادتيش وغيرهم مثلوا أمام المحاكم وماتوا في السجن بفضل مبادئ حقوق الإنسان، والأمل معقود على جر غيرهم لهذا المصير؛ والأمل كمفهوم نضالي متحرك يحثنا على أنه كما انتصرت العدالة في البوسنة يجب أن تنتصر في العراق وسوريا، وكذلك في غزة. وقد يقول قائل إن هذا صعب الآن إلا أن التمسك بالأمل، والعمل، واحتمال تغير الظروف، يجعلنا نؤمن بيوم يُحاكم فيه مسؤولون سوريون، وعراقيون وإيرانيون وإسرائيليون وأميركيون عن جرائم اقترفوها بموجب نصوص القانون الإنساني الدولي، وقوانين وأعراف الحروب.

إن العالم يعيش الآن مرحلة صعبة تُهدر فيها حقوق الإنسان، ونشهد تراجعاً في الغرب عن معايير إنسانية لشدَّما تباهى بها؛ ففي بريطانيا، كمثال، نرى سعي حكومتها للانسحاب من اتفاقية اللاجئين الملاذ الآمن للمعذبين، بحجة أن إلغاءها يوقف تدفق الغرباء! وأصدرت تشريعاً يحظر على المحكمة أن تبطل قراراً حكومياً بترحيل اللاجئين؛ بذلك تتحول الحكومة إلى سلطة تشريعية وتنفيذية وقضائية ضاربة، مقوضة بذلك الديمقراطية من جذورها. هذا السلوك اللاأخلاقي مبعثه أفكار خبيثة بأن اللاجئين يغزون البلاد، ويغيرون ثقافتها، وينهبون اقتصادها، وبهذا يصبح اللاجئ عدواً لا حقوق له. وما يصح على بريطانيا يصح على بلدان أوروبية أخرى، وبالذات ترمب الذي يجهر بمعاداة الآخرين، ونكران إنسانيتهم، وسبق له أن سلب الأمهات أطفالهن الرضع على الحدود، لكي يجبرهن على العودة من حيث جاءوا، وعدّ دولاً إسلامية مصدِّرة للإرهاب، ولا يجب أن يدخل أهلها إلى أميركا.

إن غزة بكل فظائعها، وما يجري من انتهاكات في العالم، محفز لنا على التمسك بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وأن نتذكر دائماً دماء من سبقونا في سبيل تجسيد تلك الحقوق، وندرك أن التخلي عنها عودة للوراء، وقفز في المجهول؛ وكما كان الأمل سلاح أجدادنا، وبه غيروا الواقع، ليكن سلاحنا الأوحد، والأمضى، لنوسع تلك الحقوق الثابتة، ونرفض تحويلها إلى منافع متوقفة على أهواء أصحاب القوة والقرار.

لنتذكر أن العالم لا يصنعنا، بل نحن نصنعه وبأيدينا جعله جنة غناء أو ناراً تلظى.