جاء التصحيح السريع من الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي، لما ذكره مترجم اللقاء مع الرئيس بوتين في العاصمة السعودية الرياض (6 ديسمبر/ كانون الأول 2023م)، حينما ذكر المترجم أن «الاتحاد السوفياتي كان أول دولة تعترف باستقلال السعودية قبل نحو مائة سنة»، ليكون رد الأمير محمد بن سلمان في لفتة ذكية وبدبلوماسية راقية: «فقط فخامتكم: أود أن أصحح للمترجم؛ السعودية لم تستقل في ذلك الوقت، السعودية أعيد توحيدها، لم تكن مستعمرة من قبل في التاريخ»، ليلقي ضوءاً آخر على حرص قادة السعودية على دقة تدوين واستدعاء التاريخ الوطني.
ولعل هذه العبارات تقودنا إلى محاولة سبر تاريخ العلاقات بين البلدين، وتقصي أسباب كون الاتحاد السوفياتي أولى الدول اعترافاً بمملكة الحجاز وسلطنة نجد وملحقاتها، ذلك الاعتراف الرسمي الذي تم يوم 16 فبراير (شباط) 1926م، وبعد أسابيع قليلة من مبايعة الملك عبد العزيز ملكاً على الحجاز (8 يناير/ كانون الثاني 1926م)، أما الإجابة عن التساؤل الذي طالما طُرح عن عدم مجيء الاعتراف الأول من دولة عربية أو إسلامية فمردها أن معظم تلك الدول لم تكن مستقلة، وبالتالي قرارها السيادي - خصوصاً في شقه الخارجي - كان خاضعاً لهيمنة وتأثير القوى الأجنبية المسيطرة. ثم إن الاعتراف لم يكن بـ(المملكة العربية السعودية) التي لم يعلن توحيدها وتغيير اسمها بعد؛ بل كان بضم الحجاز تحت حكم الملك عبد العزيز وإعلان (مملكة الحجاز وسلطنة نجد وملحقاتها)، الحدث الذي كان بالغ الأهمية وقتذاك، خصوصاً في ظل تنافس القوى العالمية وعدم اطمئنان الملك المؤسس لمواقف بريطانيا، إضافة إلى أن الاتحاد السوفياتي وليس (روسيا) كان محتاجاً لتوسيع مصالحه ومد نفوذه في المنطقة، وهو الذي لم يكن مر على قيامه سوى بضع سنوات (1917م) بعد سقوط الإمبراطورية الروسية، فبادر بفتح ممثليته في الحجاز عام 1924، تحت غطاء رعاية مصالح مواطنيه من الحجاج المسلمين، وجاء ذلك تزامناً مع انضمام الحجاز للحكم السعودي، علاوةً على أن العلاقات التجارية والمصالح الاقتصادية لم تكن غائبة أيضاً، ويذهب عدد من الباحثين في تاريخ العلاقات السوفياتية - السعودية، التي ما زالت في تقديري تتطلب مزيداً من البحث والدراسة والتنقيب، إلى أن الدوافع السياسية والعقائدية (الآيديولوجية) كانت حاضرة وبقوة، فالاتحاد السوفياتي كقوة عالمية صاعدة تبحث عن النفوذ والتأثير ومنافسة الوجود البريطاني، وأفضل الأدوات التي يمكن استخدامها هي الورقة الآيديولوجية والتبشير بالأفكار الاشتراكية، خصوصاً أن أكثر الشعوب المسلمة كانت تحت الاحتلال البريطاني. والمفارقة أن الورقة الآيديولوجية في أفغانستان كانت الورقة الأهم التي أنهكت الاتحاد السوفياتي بعد ذلك التاريخ بسبعين عاماً وأسهمت في سقوطه! المهم أن ذلك الهدف لم يكن سهل التحقيق في ظل الوجود البريطاني، فكان رأي المخططين الشيوعيين أن الحج هو الفرصة المثالية لنشر الأفكار الاشتراكية في أوساط النخب المسلمة، مما سيمهد الطريق لثورة اشتراكية عالمية. وهنا نرى التشابه الكبير بين الأنظمة الشمولية في أسس التفكير ومحاولة استغلال موسم الحج للتبشير بالأفكار الثورية، وهو ما فعلته التنظيمات الحركية التي تتدثر بالإسلام وما حاول الخمينيون فعله مراراً.
وعلى أي حال يطول شرح وتحليل كل الأسباب والدوافع للاعتراف السوفياتي بالمملكة، لكن المؤكد أن ذلك الاعتراف جاء بمبادرة سوفياتية، وليس بطلب سعودي، كما أتى - وبلا شك - في وقته ولمصلحة الملك عبد العزيز، الذي استفاد من التنافس السياسي بين الدول لتقوية موقفه ودعم كيانه واستكمال بناء دولته. وليس صحيحاً ما يتداول من أن دولاً سبقت الاتحاد السوفياتي بالاعتراف الرسمي بالمملكة، كما أن ذلك الاعتراف لم يكن الأولية السوفياتية الوحيدة؛ بل كان الاتحاد السوفياتي أيضاً أول دولة ترفع مستوى علاقاتها وتمثيلها الدبلوماسي في جدة عام 1929، من وكالة وقنصلية عامة إلى بعثة دبلوماسية رسمية، وتلتها بريطانيا! ومن المهم الإشارة إلى أن اعتراف السوفيات تبعه بعد أسبوعين، اعتراف بريطانيا ثم فرنسا، وكان ذلك يوم 1 مارس (آذار). كل ذلك يبين براعة الملك المؤسس في الاستفادة من التناقضات السياسية وتوظيفه لكل الأوراق للمحافظة على سيادة دولته ونأيه بها عن الصراعات الدولية. كما يدل على بيروقراطية بريطانيا (العظمى) بسبب تعدد أذرعتها المعنية بالمنطقة مثل: مكتب الهند، ووزارة المستعمرات، ووزارة الخارجية، وغيرها من أجهزة الحكومة البريطانية. أما هولندا فكانت رابع الدول المعترفة، وكان ذلك يوم 15 مارس 1926. ومن ملامح تطور العلاقات السوفياتية - السعودية آنذاك، مشاركة وفد من الاتحاد السوفياتي في المؤتمر الإسلامي الذي دعا له الملك عبد العزيز وانعقد في مكة المكرمة خلال شهري يونيو (حزيران) ويوليو (تموز) 1926، (موسم حج عام 1344هـ).
أما عن العلاقات البترولية، فتم إبرام عقد في شهر أغسطس (آب) 1931، مع شركة «سويوز نفت إكسبورت» السوفياتية لتوريد شحنات من البنزين والكيروسين لسد حاجة المملكة من تلك المشتقات البترولية، وجاء ذلك بعد منافسة مع الشركات البريطانية.
ثم أتت زيارة (الأمير) فيصل بن عبد العزيز نائب الملك في الحجاز ووزير الخارجية، لموسكو منتصف عام 1932، كأول زيارة يقوم بها زعيم أو مسؤول عربي كبير للاتحاد السوفياتي. كانت أهداف الزيارة اقتصادية، وسبق للملك عبد العزيز أن وظف العلاقات التجارية وسمح بتدفق البضائع السوفياتية، فأحرز بذلك أكثر من هدف منها: حقق للسوفيات رغبتهم في تنمية العلاقات، ما أدى إلى تحرك بريطاني في اتجاه تطوير جوانب من علاقتهم بالملك عبد العزيز الذي استفاد من تقلبات العلاقات الدولية، خصوصاً في سنوات ما بين الحربين العالميتين لإنجاز أهدافه الوحدوية، وإتمام مشروعه السياسي المستقل وتعزيز مكانته الدولية، ثم إنه وفر بدائل اقتصادية لتأمين المقومات والموارد للدولة الناشئة في ظل الأزمات الاقتصادية التي مر بها العالم. يلخص ذلك المؤرخ السعودي الدكتور محمد العويضي بقوله: «لما نشبت الأزمة الاقتصادية العالمية أخذت شركات النفط الأنغلو أميركية تثير دولها ضد الملك عبد العزيز بحجة عجزه عن سداد ديونه، فبادر باللعب بالورقة الروسية، ووجه رسالة واضحة بأن البديل موجود».
لذا عندما صحح الأمير محمد بن سلمان تلك المعلومة للرئيس الروسي ومترجمه الخاص، كان يستحضر كل ذلك التاريخ ويستلهم المواقف لجده المؤسس ومن بعده أبنائه الملوك، والتي قرأها الأمير محمد مع كثير غيرها ووعاها تماماً كوعي أبيه وجده للتاريخ، وغدا ذلك التاريخ الباذخ وقوداً لرؤيته الطموح ومحركاً للمشروع السعودي النهضوي وبوابة العبور للمستقبل.
* كاتب سعودي
