مشاري الذايدي
صحافي وكاتب سعودي. عمل في عدة صحف ومجلات سعودية. اشتغل في جريدة المدينة السعودية في عدة أقسام حتى صار عضو هيئة التطوير فيها. ثم انتقل لـ«الشرق الأوسط» من 2003، وتدرَّج بعدة مواقع منها: المشرف على قسم الرأي حتى صار كبير المحررين في السعودية والخليج، وكاتباً منتظماً بها. اختير ضمن أعضاء الحوار الوطني السعودي في مكة المكرمة. وشارك بأوراق عمل في العديد من الندوات العربية. أعدَّ وقدَّم برنامجي «مرايا» وبرنامج «الندوة». في شبكة قنوات «العربية».
TT

تحليل الغفلة وغفلة التحليل

استمع إلى المقالة

قليلٌ من الناس يملك القدرةَ والصبرَ على عناءِ الاطلاع على ما يقوله المخالفون له. جاء في مسرحية «مجنون ليلى» لأمير الشعراء أحمد شوقي، هذه الأبيات على لسان شخصية من شخصياته:

ما الذي أضحكَ مني الظَّبِيَاتِ العامريهْ

أَلِأنّي أنا شيعيٌّ وليلَى أُمويه؟

اختلافُ الرأي لا يفسد للودّ قضيه!

وطارَ هذا الشطر لشوقي مطيرَ الريح، وأصبحَ من الأمثال والمقولات السائرة، حتى نسي كثيرٌ من الناس أصلَ البيت الوارد في المسرحية. لكن هل صحيحٌ أنَّ اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية؟

أتحدَّث عن مثال شخصي، حين ألقَى عليَّ رجلٌ من معارفي لوماً وعتباً على فكرة طرحتها ذات مقال، وهو يكلمني كفاحاً وجهاً لوجه، في منزلي، ناقشتُه وجمعتُ حججِي التي تدعم صوابَ ما قلته، أو ما بدَا لي أنَّه الصوابُ حينَها، ردَّ عليَّ الرجلُ بما لديه، لم يقنعني ردُّه، لكن آثرت إكرامَه والكفَّ عن الجدال عندما رأيته محتداً، فقلت: من يدري ربَّما تتَّضح أدلةٌ أخرى فيما بعد، وعلى كلّ حال فـ«اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية». غضب أكثر وتهدَّج صوتُه معلناً أنَّ المسألةَ ليست وداً يطلب أو محبةً تُرجى، بل قضية «حق وباطل»، يجب عليك فيها العودةُ للحق دون مكابرة! يقصد بالحق رأيَه المحضَ الذي لم يُحسن سَوْقَ البراهين على صحتِه، فضلاً عن كونه الحقَّ الذي لا مِريةَ فيه... فقلت له مبتسماً بهدوء وترحاب: إن شاء الله.

لستُ أنفي عن نفسِي أهواءَ الانتصار للرأي، ومن منَّا بريءٌ من ذلك؟! لكن أزعمُ أنّني أضعفُ أمام الحجةِ القوية، حين أراها وأسمعُها، وإن لم أعلنْ تراجعي وقتَها، فغالباً أرجع لاحقاً، حتى لا أحرج نفسي أمام نفسي، قبل الآخرين، أو قل إنّني أفعل ذلك مراتٍ كثيرةً، وإن لم يكن في كل المرات، فقاتل الله أهواء النفوس.

الآن في جلجلة وصلصلة الجدلِ واللجاج بينَنا عن قضية «حماس» وغزة وإسرائيل والحرب والسلام واليمين واليسار والمستقبل والماضي والأصولية والمدنية، تستفحل هذه الخلافاتُ وتتحوَّل أحياناً لغزوات لفظيةٍ وشتائمَ ومحارقَ أخلاقيةٍ، أين منها مقولةُ أحمد بك شوقي؟!

ثمة فريقٌ من «محللي الغفلة» يعومون على بحر الشعبوية، وأسهل ما عليهم اعتمارُ عمائمِ الوهم، الذي يرونَه الحقَّ الصراح، من دون التفات، ولو يسيراً، لمكامنِ الخلل ومقابضِ التناقض في معمارهم التحليلي، فلا بأسَ بكل هذه المعائب ما دامَ الجمهورُ يهتف ويصفق، ولو على خرائبِ غزة وكوارثِ ناسها.

كتب الرائع الكويتي سامي النصف مؤخراً في «النهار» الكويتية عن هذه المجموعة فقال:

«آخر ما يردّه (محللو الغفلة) هو التحذير من أنَّ الحروب الحالية تهدف إلى تفتيت وتقسيم الأوطان العربية، ومرة أخرى يحتاج هؤلاء لتذكيرهم بأنَّ الأوطان العربية قد تفتَّتت منذ أعوام طوال، فهناك فلسطين غزة وفلسطين رام الله، ليبيا طرابلس وليبيا بنغازي، يمن صنعاء ويمن عدن، عراق بغداد وعراق أربيل، سوريا دمشق وسوريا إدلب وقامشلي».

هل سيتغير هذا التردي العقلي العام؟!

يجيب النصف دون تفاؤل، أنْ لا، ما دام هذا الصنف من كتبة الجمهور «يسرحون ويمرحون ويفرحون بتضليل العقل العربي... أو ما تبقى منه!».

كم هي مؤلمة عبارة: أو ما تبقى منه، ولعلَّ في هذا الباقي غنية وكفاية!