كل الأوراق باتت على السطح، القوى المتصارعة تتسابق للتوقيع في دفاتر النفوذ المستقبلي، الحرب على غزة نقطة تحول، لها تداعياتها الكاشفة، العالم بات الشاهد الذي تعمّد عدم الرؤية، التجربة أثبتت أن القوانين والمواثيق الدولية يتم تطبيقها حسب الطلب، وأن السلم والأمن الدوليين مفهومان يتحطمان أمام «الفيتو» الأميركي.
شكّل السابع من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2023، محطة فارقة، ليس على مستوى الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، إنما على المسرح الدولي، فقد دخل العالم في اختبار حقيقي حول ما يدعيه بالدفاع عن حقوق الإنسان، واحترام القوانين الدولية الإنسانية، والحفاظ على المؤسسات الأممية، لم ينجح هذا العالم في الاختبار، فقد تبخّرت كل هذه المفاهيم في الهواء، وتبيّن أن هذه المؤسسات الدولية، مجرد واجهة.
لم تقم بمهامها في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، بل إنها قطعت الطريق أمام أي محاولات لتحقيق الأمن الدولي، باستخدام «الفيتو» كسيف مصلّت على رقبة الاستقرار، وكأننا ندور في حلقة مفرغة، لا تصل بنا إلى أي رؤى تبشر بمستقبل عالمي آمن.
نعم، اللحظة كاشفة، دولة الاحتلال الإسرائيلي خلعت كل الأقنعة، سلوكها على الأرض يؤكد رغبتها، ونياتها، ومخططاتها الرامية لشطب الشعب الفلسطيني من الوجود، ففي هذه الحرب على الفلسطينيين في غزة، لم تتورع إسرائيل لحظة واحدة عن ارتكاب جميع أنواع الجرائم التي يحظرها القانون الدولي الإنساني، واستخدمت، عن عمد وقصد، جميع أنواع الأسلحة المحرّمة دولياً، مثل إلقاء قنابل الفوسفور الأبيض على رؤوس الشعب الأعزل، وقصف المستشفيات والمدارس ودور العبادة، والمؤسسات الدولية.
فضلاً عن الكلام اللامسؤول لوزير التراث الإسرائيلي عميحاي إلياهو، الذي طالب باستخدام قنبلة نووية لإزالة غزة وشعبها من الوجود، فلم نسمع عن احتجاج من قِبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ولم نجد تنديداً من قِبل مجلس الأمن، كما حدث مع العراق، بعد حرب الخليج الثانية عام 1991، وما بعدها بسنوات، أم أن تهديدات الوزير إلياهو شديد التطرف، كانت رسالة اعتراف للمرة الأولى بأن إسرائيل تمتلك أسلحة نووية، رغم أنها تدعي عكس ذلك تماماً، بل تحرص على تبني سياسة «الغموض النووي».
أما الانكشاف الثاني، فيتمثل في قوة التحركات الأميركية لصالح إسرائيل منذ اللحظة الأولى، لدرجة أنها راحت تسبقها بخطوات على جميع الصعد: العسكرية والدبلوماسية، والإعلامية، والمالية، واشنطن ترى هذه الحرب هي حربها الخاصة، قدمت ألف طن من المعدات العسكرية المتقدمة منذ اليوم الأول، ثم دعمتها بسبعة آلاف طن، من الذخائر والأسلحة، ثم شاركت بخبراء عسكريين كانت لهم تجارب في مدينتي الفالوجة والموصل العراقيتين، وسمحت لهم بالاستفادة من صور الأقمار الاصطناعية الأميركية فسهّلت لهم الوصول إلى الأهداف في غزة.
وليس خافياً، أنها أرسلت أكبر حاملتَي طائرات في العالم: «جيرالد فورد»، و«دوايت أيزنهاور»، ثم أرسلت أكبر غواصة نووية هي «أوهايو»، وهذه تستطيع قصف 24 مدينة خلال دقيقة واحدة.
خصوصية هذه الحرب بالنسبة لأميركا، ترجمتها زيارة الرئيس بايدن إلى تل أبيب، الذي حضر خلالها مجلس الحرب، وطالبهم فيه بالقتال المستمر، وبرَّأهم من قصف مستشفى المعمداني، ثم واصل دعمه في الإعلام العالمي، عندما روّج للرواية الإسرائيلية عن حكاية ذبح الأطفال يوم السابع من أكتوبر، وهو ما نفاه بايدن بنفسه فيما بعد، وكان قد شكك في أرقام الشهداء والجرحى الفلسطينيين لمصلحة حليفته إسرائيل.
الدعم نفسه كان مخلصاً له وزير خارجيته أنتوني بلينكن الذي قال منذ اللحظة الأولى، بأنه جاء إلى إسرائيل بكونه يهودياً، ولم يتخل عن هذا المفهوم في زيارته الثانية، رغم ما استمع إليه من حقائق وثوابت في العواصم العربية التي زارها، وهي حقائق عربية مغايرة تماماً للرواية الإسرائيلية.
واشنطن لم تخفِ مواقفها في الدعم الكامل غير المشروط للكيان الإسرائيلي، تؤكد يوماً بعد الآخر انتقائيتها وازدواجية معاييرها في التعامل مع الأزمات، ولعلنا عشنا ذلك أيضاً، ليس في العراق وأفغانستان وسوريا فقط، بل نعيشه الآن في أوكرانيا، سقطت الأقنعة الإسرائيلية والأميركية، وبجوارها تسقط أيضاً الأقنعة الأوروبية، فلم نتصور أن شراكتهم مع أميركا، ستسقط من حساباتهم جميع المعايير الإنسانية، وسقطت أوروبا في الاختبارات الأخلاقية، انحازت للقتل من أجل الاصطفاف في طابور، يرسم ملامح نظام عالمي أميركي جديد، وصفه الرئيس بايدن بأنه نظام الاستثمار الذكي في الحروب.
عواصم أوروبية أيضاً سارت في ركاب رواية واشنطن - تل أبيب، وقّعوا على بياض ضد حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، لم تهتز مشاعرهم أمام مشاهد سفك الدماء للنساء والأطفال، وتهديم البيوت، وانشغلوا بمواصلة دعمهم الكامل للدولة العبرية.
الانكشاف الثالث، يستحق التأمل طويلاً، وهو الذي يتعلق بوجود المؤسسات الدولية على رأس النظام العالمي، فقد كشف أطباء السياسة في العالم، عن أن هذه المؤسسات باتت مريضة، وأن استعادة الروح فيها بات أمراً مستحيلاً، فأعراض هذه الحالة المستعصية للمؤسسات الدولية، باتت واضحة، تتمثل في الجمود والصمت وعدم التحرك؛ لإنقاذ شعب أعزل من المجازر الوحشية، فلم يعد مجلس الأمن اسماً على مسمى، فلا هو مجلس أمن ولا مجلس سلم.
إذن، وسط هذه الانكشافات التاريخية للعالم، التي أحدثتها الحرب على الفلسطينيين في غزة، فنحن أمام إعادة صياغة إجبارية للسياسات الدولية، ستتكشف ملامحها في قادم الأيام، لكن قطعاً، أنها ستعيد رسم خرائط العالم وفق قواعد ترسمها الشعوب، وليس وفق نظام القواعد الموروث منذ الحرب العالمية الثانية.