هل سيستمر الدولار في هيمنته في هذا العالم المضطرب شديد التغير؟ تختلف دوافع هذا السؤال من سائل لآخر، وهو سؤال قديم متكرر منذ سيطر الدولار على الساحة الدولية. فهو العملة المفضلة للبنوك المركزية بما يجعله اليوم عملة احتياطي دولي بنسبة 60 في المائة بعدما كانت 70 في المائة في عام 2000، رغم أن نصيب الولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي لا يتجاوز حالياً 25 في المائة. كما أنه وسيط للمبادلة وتسوية المدفوعات الدولية بما يزيد على 40 في المائة وكانت هذه النسبة تقل عن 35 في المائة في عام 2012. والدولار هو عملة القروض الدولية الأولى، إذ ارتفعت حصته من عقود الديون الدولية من 45 في المائة تقريباً في عام 2007 حتى اقتربت من 65 في المائة في عام 2020. ولمن يريد تحديثاً دورياً لهذه الأرقام فمصادرها هي بنك التسويات الدولية وصندوق الدولي وسويفت، وقد استند إليها الاقتصادي أسوار براساد لبحث مدى استمرار الدولار في هيمنته، وله كتاب مرجعي مهم في مستقبل النقود تناول فيه تأثير الثورة الرقمية على العملات والتمويل.
هيمنة الدولار كانت محل انتقاد من حلفاء الولايات المتحدة قبل غرمائها وأعدائها. ففي الستينات من القرن الماضي أثار الفرنسيون ما أطلقوا عليه الامتياز السخيّ للولايات المتحدة كدولة مصدِّرة للعملة المهيمنة. فالمعاملات الدولارية يساندها القطاع المالي الأميركي بعوائد مجزية ويتمتع البنك الفيدرالي بريع للإصدار يزيد بزيادة حاملي الدولار كما تسوّي الولايات المتحدة التزاماتها الدولية بعملة محلية. كما يمكنها استخدام عملتها في فرض العقوبات الاقتصادية كما فعلت مع إيران وروسيا وأفغانستان. كما أنه بتوسع الاستخدام الدولي لعملتها بما يتجاوز حجم اقتصادها المحلي ونصيبه من الاقتصاد العالمي، تستطيع بسياساتها النقدية والمالية أن تؤثر في الأوضاع الاقتصادية الدولية من خلال قناة الدولار.
فتحجيم الدولار أمر كان من دوافع الأوروبيين لإيجاد عملة موحدة، وتمناه الروس بخاصة بعدما كان من أمرهم معه بعد تسليحه؛ ويرى الصينيون استمرار سيطرته تجاوزاً لتعدد الأقطاب الاقتصادية العالمية.
كما دعا مؤخراً الرئيس البرازيلي إغناسيو لولا دا سيلفا خلال قمة باريس في شهر يونيو (حزيران) الماضي إلى أهمية مراجعة الإفراط في الاعتماد على الدولار. وهو ما سانده فيه الرئيس الجنوب أفريقي سيريل رامافوزا بتحبيذ استعمال العملات المحلية في التجارة الدولية. بينما دعت الصين المتصدرة للتجارة الدولية إلى المزيد من استعمال عملتها الرنمينبي. وقد تحولت روسيا بالفعل لاستخدام العملة الصينية كإحدى عملات الاحتياطي وفي تجارتها الدولية بعد تجميد 300 مليار دولار من أصولها بعد حربها مع أوكرانيا. إذن هناك دعاوى وطموحات قديمة وجديدة لزعزعة مكانة الدولار، وهي تأتي مدفوعة بالتنافس الاقتصادي الدولي وتحجيم قوته في وقت السلم، ولمنع تسليحه في وقت الحرب.
هيمنة الدولار كعملة صعبة مستمرة، فرغم انخفاض نسبته في إجمالي الاحتياطي الدولي فإنها الأعلى بما يعادل ثلاثة أمثال نصيب اليورو الذي يمثل 20 في المائة من إجمالي الاحتياطي الدولي. كما أنه من اللافت زيادة حصة الدولار في تسوية المدفوعات وكعملة لعقود السلع الأساسية والديون الدولية في فترة أقدمت فيها الولايات المتحدة على إجراءات تُضعف تلقائياً ثقة المتعاملين في عملتها بخاصة بعد ارتفاع معدلات التضخم فيها وظهور الدولار مسلحاً في المعتركات الدولية. ولا تفسير لذلك إلا الاعتبار الأول المتمثل في حالة الاعتياد، وهو أمر أشار إليه أيضاً الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا؛ فكلما أُثير موضوع استبدال بديل من البدائل بالدولار أثار ذلك مخاوف بعض الناس، رغم تأثيره السلبي على تجارة البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل. والاعتبار الثاني هو النسبية، فأداء الاقتصاد الأميركي أفضل من منافسيه رغم كل مشكلات الاقتصاد الأميركي، بخاصة مع زيادة ديونها بما تجاوز 31 تريليون دولار في بداية هذا العام، وإخفاق البنك الفيدرالي في التعامل المبكر مع تضخم الأسعار بعد فترة من الإغداق السخي بتيسير نقدي غير مسبوق في أثناء فترة احتدام وباء كورونا.
رغم كل هذا تستمر هيمنة الدولار إذاً بسبب الأداء الاقتصادي النسبي رغم مساوئه والاعتياد المساندين بما أكدت عليه جانيت يلين، وزيرة الخزانة الأميركية، في يونيو (حزيران) الماضي، أنه من الصعب على الدول أن تجد بدائل مناسبة لعملة سيطرت على التجارة لعقود «فهناك أسباب جيدة لاستخدام الدولار بتوسع في التجارة، فلدينا أسواق مالية عميقة وذات سيولة ومنفتحة وتحكم بالقانون وأدوات مالية طويلة الأجل».
من سُنن الكون تغيره بدفع الناس بعضهم ببعض، كما تأتي أحقاب مشهودة يتغير فيها في أيام وشهور ما كان يستغرق عقوداً من الزمن الرتيب. ومن دروس نزع الإسترليني عن العرش، الذي يعتليه الدولار الآن، أثر الحروب والديون والأداء الاقتصاد الكلي في مكانته العالمية كعملة صعبة وهو ما استعرضناه في المقال السابق، وهي عوامل تجب متابعتها بدقة في الحالة الأميركية وازدياد الوزن النسبي لاقتصادات عالم الجنوب وتكتلاتها.
واليوم، هناك تأثير غير محدود لتكنولوجيا المعلومات في تطوير العملات الرقمية سواء الخاصة المشفرة، أو ما يجري الإعداد لإصدارها بتوسع من قبل العملات المركزية وأهمها ما يجري الإعداد له من بنك الصين المركزي منفرداً وبالتعاون مع بنوك مركزية أخرى. كما أن هناك الترتيبات الثنائية المتزايدة للتجارة بالتسوية بعملات محلية من دون المرور بالدولار كعملة معبرية.
وإلى أن نتناول في مقال قادم تفاعل هذه العوامل في تحديد مستقبل الدولار ينبغي تأكيد أن اجتهادات وحيل تحديد سعر العملة الوطنية للدولة مقابل الدولار ليست بديلاً عن أسس تحديد قيمتها التي تعتمد على الارتقاء بالاقتصاد الوطني استثماراً وإنتاجاً وتنافسية وتصديراً. فالانتقال بين العملات الصعبة من واحدة إلى أخرى لن يحسن شيئاً في اقتصاد سيئ الأداء شكلاً أو مضموناً.