د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

السلطة والطاعة العمياء

استمع إلى المقالة

في دراسة شهيرة، حاول أحد الباحثين أن يلعب دور مدير مستشفى. فطلب تشارليز هوفلينغ من الممرضات، بعد التعريف بنفسه، أن يمنحن المرضى كمية مضاعفة من الحد اليومي الأقصى للجرعة المسموح بها من دواء معين. وكانت المفاجأة، أن 95 في المائة من الهيئة التمريضية، قد استجابت لذلك الطلب، بوصفه صادراً من مدير مستشفى، على افتراض أنه خبير في مجاله. المفارقة أن ذلك وقع رغم أن الطاقم التمريضي قد نال تدريباً كافياً يرشدهم للجرعات القصوى المسموح بها يومياً من تلك العقاقير. إلا أن الممرضات آثرن الطاعة العمياء لمن زعم أنه مدير مستشفى!

والأمر نفسه وقع حينما فوجئ طبيب كتب إلى ممرضته في قصاصة ورقية عبارة مختصرة بالإنجليزية تطلب منها أن تضع عدداً محدداً من أعواد التنظيف القطنية في الأذن اليمنى للمريض. فكتب الطبيب في الوصفة الطبية بعجالة «Place in R ear» أي ضعيها في الأذن اليمنى وحرف R هو اختصار من الحرف الأول لكلمة يمين. غير أن الممرضة فهمت أن الطبيب يقصد كلمة Rear أي المؤخرة فسارعت بوضع الأعواد في مؤخرة المريض!!

هنا صعق الطبيب، بل الأعجب أن المريض لم يستنكر ولم تتأكد الممرضة من صحة ما قرأت. الأمر الذي يشير إلى قوة السلطة وكيف أن الناس تأخذ كلامك بصفتك مسؤولاً على محمل الجد، والتسليم أحياناً. جاءت هذه الحادثة في دراسة لباحثيَن متخصصيَن بالصيدلة وهما «ديفيز» و«كوهين» كان عنوانها «أخطاء الأدوية: الأسباب وكيفية تجنبها» ونُشرت بمجلة JRDE.

تلك معضلة رائجة في الممارسات القيادية. فالناس تنقاد تلقائياً لصاحب السلطة، وفي كثير من الأحيان من دون تمحيص. وقد وثقت تسجيلات الصندوق الأسود للطائرات مجريات الحوارات بين قباطنة الطائرات ومساعديهم فخلصت إلى أن من الحوادث الجسيمة، ما كان يمكن تفاديه، لو أن «الكابتن» قد أنصت جيداً لتنبيهات مساعديه.

من تلك الحوادث، الطائرة التي تحطمت في نهر البوتوماك في أوج موجة الصقيع عام 1982، بعد إقلاعها مما يسمى حالياً مطار ريغان في العاصمة واشنطن. التحريات أظهرت الحوار التالي، الذي ينبغي لنا جميعاً تأمله؛ حيث قال مساعد قبطان الطائرة: لنتأكد أو نتفحص الثلج على سطح أجنحة الطائرة.

فرد القبطان بسرعة قائلاً: لا، بل أرى أننا يجب أن نقلع خلال دقيقة واحدة. أشار المساعد إلى أحد العدادات وهو يهمّ بالإقلاع، فقال: يبدو أن هناك شيئاً ما ليس على ما يرام. سكت المساعد برهة، ثم قال بصوت منفعل: يا إلهي فعلاً هناك مشكلة. رد القبطان بصوت متهدج: صحيح هناك مشكلة. وفي أثناء ذلك، سُمِع صوت هدير محركات الطائرة وهي تحاول الإقلاع بقوة لارتفاعات شاهقة، لكن من دون جدوى.

هنا قال المساعد للقبطان: «لاري! نحن نسقط» (يقصد باتجاه النهر). فقال القبطان بانفعال وارتباك: أعلم ذلك. وفجأة سمع صوت ارتطام الطائرة بالنهر، فلقي الكابتن ومساعده حتفهما مع 76 راكباً كانوا على متن طيران فلوريدا، في رحلة حملت رقم 90.

هذا الخطأ الفادح يسمى «الكبتنة» captainitis، أو «أخطاء القباطنة» (القياديين) وهي مسألة ترتكب على مدار الساعة، ليس فقط من قبل القيادي نفسه، بل حتى من مساعديه الذين يستسلمون لما يقوله «كبيرهم»، حتى وإن كان يدفعهم بتسرع نحو التهلكة. فهم يؤثرون السلامة في علاقتهم الفردية معه، ولو كانت على حساب مصلحة المنظمة أو البلاد بأسرها.