كان منصور فهمي يود زكي مبارك ويحدب عليه، فلقد كان له موقف مشهود في نصرته حين مناقشته لرسالة الدكتوراه الأولى في كلية الآداب في الجامعة المصرية عام 1924م وكان موضوعها «الأخلاق عند الغزالي». ففي هذه الرسالة انتقد كثيراً الإمام الغزالي. وللإمام الغزالي هيمنة مرجعية على الفكر الإسلامي الوسيط والحديث، خاصة عند الأشاعرة. ومصر في مذهبها السنّي عقيدتها أشعرية. ومكانة الغزالي الكبرى في مصر تضاهي مكانة ابن تيمية عند الحنابلة والسلفيين والوهابيين.
محمد جاد المولى، مفتش اللغة العربية في وزارة المعارف، كان عضواً في لجنة المناقشة، ضاق بنقد مبارك للغزالي في رسالته، فهاجمه. استجاب لهجومه من جمهور الحاضرين للمناقشة الشيخ عبد المجيد اللبان وجماعة من مشايخ أزهريين. وثارت جلبة وصخب كادت معهما أن تفض جلسة المناقشة لكن منصور فهمي رئيس لجنة المناقشة حال دون ذلك.
دافع منصور فهمي عنه في جلسة المناقشة وحصل زكي مبارك على شهادة الدكتوراه بدرجة جيد جداً. ودافع عنه في مواجهة حملة شنها عليه أزهريون في جريدة «المقطم» وفي جريدة «الأخبار» في خطاب موجه إليه. وأوصاه في هذا الخطاب بالرفق ودعاه إلى مقابلة الشر بالصفح الجميل.
هذا الخطاب جعله زكي مبارك مقدمة لرسالته حين طبعها في كتاب عام 1924.
منصور فهمي من قبل زكي مبارك في رسالته للدكتوراه في جامعة السوربون التي ناقشها عام 1913، كان قد قدم نقداً قوياً لآراء الغزالي الغريبة حول المرأة.
لويس عوض الذي التحق بجامعة فؤاد بعد نجيب محفوظ بسنة واحدة، يقدم في سيرته الذاتية (أوراق العمر: سنوات التكوين)، صورة لمنصور فهمي مقاربة للصورة التي قدمها نجيب محفوظ عنه في عمله الأدبي «المرايا».
يقول لويس عوض: «وكنا نتهكم به لأنه تحول من أستاذ ثائر في شبابه إلى أستاذ محافظ بعد أن بلغ سن الرجولة، فقد كان من جيل طه حسين على وجه التقريب: وحين كان يدرس في السوربون قبل ثورة 1919، قدم رسالة موضوعها (المرأة في الإسلام)، قيل إن المحافظين أو الرجعيين في مصر وجدوا فيها مواضع كفر فصادروها حين صدرت باللغة العربية، وحالوا بين منصور فهمي والتدريس في الجامعة سنوات طويلة ثم ظهرت عليه أعراض المحافظة في أوائل الثلاثينات في عهد صدقي باشا، واتخذت صورة عودة إلى الدين فنشر كتاباً مملوءاً بالوجد الديني عنوانه: (أنت أنت الله)، قرأناه في شبابنا، وقلنا سبحان مغير الأحوال». الكتاب لم يترجم إلى اللغة العربية إلا بعد إصدار لويس عوض سيرته الذاتية التي صدرت عام 1989 بما يقرب من ثماني سنوات!
ليس لمنصور فهمي كتاب عنوانه «أنت أنت الله»، وإنما له مقال بهذا العنوان. وهذا المقال لم يكتبه في عهد حكومة إسماعيل صدقي، بل كتبه قبلها بسنوات قليلة، وأعاد نشره في كتابه «خطرات نفس» الصادر عام 1930.
عمل نجيب محفوظ «المرايا» الذي حار النقاد في تصنيف جنسه الأدبي، اشتهرت عند القارئ العام شخصية من شخصياته، بأن صاحبها هو سيد قطب، وهي شخصية عبد الوهاب إسماعيل. أما شخصية إبراهيم عقل، فلقد كشف عنها أولاً، مستشرق أميركي، وثنى على كشفه هذا أديب وناقد إسرائيلي من أصل عراقي بدراسة كتبها باللغة العربية. وسيأتي الحديث عنهما، حين أستأنف الحديث في تعداد المصادر الأخرى التي أغفلها صابر أحمد نايل في حديثه عن رسالة منصور فهمي للدكتوراه.
ولعله من المفيد أن أزود القارئ بمعلومات في هذا المقال وفي المقال الذي يليه، وهي كيف عرف جمهرة الأدباء والنقاد وجمهرة الإسلاميين أن عبد الوهاب إسماعيل في «المرايا» هو سيد قطب.
في الطبعة الثانية لكتاب «الروحية والإسلامية في أدب نجيب محفوظ» لمحمد حسن عبد الله، الصادرة عام 1979، كان مما أضافه إلى هذه الطبعة، قوله: «ونصل إلى آخر النماذج في مجال التأثر الإيجابي بالدين: عبد الوهاب إسماعيل، وهو الشخص الوحيد الذي لفت أنظار الكتاب الإسلاميين، من حيث رأى بعضهم أن المقصود به سيد قطب (انظر مثلاً مقال: الإخوان المسلمون في مرايا نجيب محفوظ – مجلة المجتمع الكويتية – 23 يناير/كانون الثاني 1973) وسواء كان هذا صحيحاً بالنسبة لعبد الوهاب إسماعيل أو غيره فإنه لا يعنينا، وليس من مهمتنا أن نبحث عن أصول هذه الصور السريعة، وكل ما نعني به هنا دلالته على فكر الكاتب، ومدى ما فيها من صدق أو زيف، من حيث البناء الداخلي والدلالة الاجتماعية التي تدعم المبدأ الأساسي في فن الرواية، وهو البناء الشامل للرواية».
هذه المعلومة التي تضمنتها هذه الإضافة، ما كانت لتكون في الطبعة الأولى في الكتاب التي صدرت بالكويت، لأن الطبعة الأولى للكتاب صدرت عام 1972، والمقال الذي أشار إليه محمد حسن عبد الله، نُشر – كما أشار – في عام 1973.
بالرجوع إلى تاريخ عدد مجلة «المجتمع» الكويتية الذي ذكر محمد حسن عبد الله أنه نشر المقال فيه، عرفت أن كاتبه كاتب وأديب إسلامي مغربي، وكان وقتها لا يزال شاباً في عقد العشرينات من عمره. هذا الكاتب والأديب الإسلامي هو محمد المنتصر الريسوني.
من المنتظر أن يعرف محمد حسن عبد الله بخبر هذا المقال المنشور في مجلة إسلامية «إخوانية»، لأنه حين نشره كان يعمل مدرّساً في جامعة الكويت (محمد حسن عبد الله عمل في التعليم ما قبل الجامعي والتعليم الجامعي في الكويت من عام 1962 إلى عام 1987)، ولأن الكويت مجتمع صغير، يعلم المهتم فيه بالشأن السياسي والأدبي والفكري – بصرف النظر عن توجهه – ما نشر على سبيل المثال، في مجلة إسلامية، كمجلة «المجتمع»، وفي مجلة يسارية، كمجلة «الطليعة»، على تناقض اتجاهاتهما. ومن حقه علينا أن نقول: إنه لولا إشارته السابقة لذلك المقال، لظل ذلك المقال مطوياً في غيابة أرشيف مجلة «المجتمع». ومع التثمين لإشارته السابقة فإنه جاوز فيها الدقة إلى صيغة المبالغة، بجملته هذه: «عبد الوهاب إسماعيل، وهو الشخص الوحيد الذي لفت أنظار الكتاب الإسلاميين، من حيث رأى بعضهم أن المقصود به سيد قطب». إذ لا يوجد سوى محمد المنتصر الريسوني الذي رأى هذا الرأي. ومع تأكد الريسوني من أن نجيب محفوظ في «مراياه» يقصد بعبد الوهاب إسماعيل سيد قطب، فإنه لم يصرّح باسم سيد قطب. فلقد كان متحوطاً في ذكر اسمه إلى حد كبير.
لنقرأ تحوُّطه الكبير هذا:
«وبتدبري لشخصية عبد الوهاب إسماعيل في (المرايا)، تبادر إلى ذهني بالقرائن أنه يقصد فرداً مهماً بعينه، وأنا لا أريد أن أتورط في التصريح باسمه فقد أكون مخطئاً مع نفسي، وأرجو أن يتحقق ذلك من أعماق قلبي، ولكن كيف يتحقق؟ الجواب أتركه للقراء حين يرجعون للمرايا ليدلي كل من له قدرة على البحث برأيه عن المقصود بشخصية عبد الوهاب إسماعيل، وإذا ما وقع الاتفاق على ما أرشدتني إليه القرائن، قمت بدحض التهم إنصافاً للتاريخ، وإرضاء للضمير».
لم يستجب قراء المجلة الإسلاميين لاستحثاثه بأن يرجعوا لـ«مرايا» نجيب محفوظ وأن يقولوا رأيهم، إن كان المقصود بشخصية عبد الوهاب إسماعيل هو (الفرد المهم) الذي لم يصرّح لهم باسمه.
بعد مضي أربعة أشهر، نشرت المجلة في العدد 151 بتاريخ 22 مايو (أيار) 1973، موضوعاً عنوانه «مرايا نجيب محفوظ في مرآة النقد والتقويم» لمحمد عبد الفتاح. هذا الموضوع لا صلة باستحثاث الريسوني، ولا صلة له بموضوع مقاله «الإخوان المسلمون في مرايا نجيب محفوظ». وللحديث بقية.