ماريو فارغاس يوسا
روائي بيروفي حاصل على جائزة «نوبل» في الأدب عام 2010. يكتب مرتين شهرياً في«الشرق الأوسط».
TT

ليس باسمي

استمع إلى المقالة

للأسف، تعذّرت عليّ المشاركة في المظاهرة الحاشدة التي دعت إليها الجمعية المدنية الكاتالونية مطلع الأسبوع الفائت في برشلونة؛ المدينة التي أحتفظ بأجمل الذكريات عن إقامتي لسنوات فيها، والتي امتلأت خلال تلك المظاهرة بلافتات التأكيد على أن أهل كاتالونيا والإسبان الوافدين إليها من أماكن أخرى يرغبون في البقاء متحدين. يؤسفني حقاً هذا الغياب الخارج عن إرادتي، وعدم التمكن من الانضمام إلى ذلك الحشد الذي خرج إلى الشوارع للدفاع عن أواصر انتمائه إلى إسبانيا، مطالباً بمعاملة متساوية أمام القانون.

أمضيت 5 سنوات من حياتي في برشلونة بين عامي 1970 و1974، وأذكر جيداً أن الذين كانوا ينادون بالاستقلال يومذاك كانوا حفنة ضئيلة ترى فيها القوى الناشطة في المدينة ضرباً من الشطط السياسي، ولم يكن أحد يتوقع ما شهدناه بعد ذلك. وعندما عدت إلى إسبانيا بعد سنوات طويلة من الغياب، فاجأتني تلك المظاهرات الضخمة المؤيدة للانفصال. تجوز المطالبة بالاستقلال عندما تتوفر لها أسس وطيدة، مثل القمع الذي تمارسه سلطة مركزية ضد استخدام لغة محلية أو غيره من المظاهر الثقافية. لكن المطالبة به اليوم في الوقت الذي تحاول إسبانيا منذ نهاية الديكتاتورية توحيد أقاليمها على أساس نظام لا مركزي يحاكي في كثير من جوانبه النظام الفيدرالي، لا تعدو كونها ضرباً من العبث. وأكرر: العبث الأحمق. كاتالونيا جزء لا يتجزأ من إسبانيا منذ قرون بعيدة، وهذا ما يشعر به ملايين الكاتالونيين، كما تبيّن دائماً من المظاهرات التي خرجت ضد الاستقلال، ولا يجوز أبداً فصله عن إسبانيا بأي شكل من الأشكال، أو أن يعطى خيار السير في طريق آخر سيؤدي حتماً إلى وضع يعود بالمنفعة على عدد ضئيل من المواطنين ويتسبب في تراجع الغالبية وملاحقة أولئك الذين يؤيدون الوحدة مع إسبانيا.

لذلك شعرت بتأثر عميق عندما شاهدت تلك الحشود الكاتالونية التي كانت تنادي بالوحدة مع إسبانيا، الدولة المتماسكة وثمرة قرون عديدة من التاريخ والقوة. خلال السنوات الخمس التي أمضيتها من حياتي في برشلونة كنت على صلة وثيقة بشخصين استثنائيين من أشدّ المعترضين على التعصب الاستقلالي: كارلوس بارّال، الشاعر الذي أصبح ناشراً وأحد الذين ألهموا «فورة» الرواية الأميركية اللاتينية التي انطلقت من برشلونة وترسّخت فيها. وكارمن بالسيلز، الرائدة الرائعة التي دفعت بالعديد من الكتّاب الأمريكيين اللاتينيين إلى العيش في برشلونة، والتمتع بهذه المدينة الفريدة، بدور نشرها، وثقافتها الواسعة وما يعتمل فيها من فضول فكري. هذه المدينة المفتوحة على الثقافات، الجامعة، كانت الباب إلى الحداثة والحرية والمستقبل الزاهر الذي كنا نحلم به، رغم أن إسبانيا يومها كانت لا تزال تحت قبضة نظام الاستبداد.

نحن اليوم أمام وضع عسير جداً. أولئك الذين فرّوا من العدالة الإسبانية بعد أن انتهكوا النظام الدستوري يطالبون اليوم بالحرية التامة مقابل منح بيدرو سانتشيز الأصوات التي يحتاج إليها لتشكيل الحكومة الإسبانية الجديدة. من حق إسبانيا، ومن واجبها، مثل أي دولة أخرى، أن تعاقب الذين ينتهكون القوانين المرعية ويحاولون ضرب الوحدة الوطنية. ومن السوابق الخطيرة الموافقة على مطالب الانفصاليين الذين طلبوا اللجوء إلى الخارج حيث يوجدون إلى الآن فارين من وجه العدالة يتحينون فرصة ابتزاز الديموقراطية الإسبانية. هذا ليس سبيلاً صالحاً للوصول إلى السلطة. لذلك أسعدني كثيراً أن ما يزيد عن 300 ألف شخص خرجوا في وسط برشلونة يعربون عن رفضهم لهذا التمييز غير المقبول، معلنين ولاءهم للدستور ولإسبانيا الأبدية، والموحدة والتعددية. هذه هي كاتالونيا التي أحب، الإقليم الزاهر الذي اكتشفني كاتباً، كما اكتشف غابرييل غارسيّا ماركيز وخوليو كورتازار وكارلوس فونتيس وكثيرين من الكتّاب الذين لمعوا في المشهد الأدبي العالمي بفضل دور النشر الكاتالونية، والذين لن يصدّق أي منهم ما يحصل حالياً، لأننا عشنا تلك الفترة الرائعة عندما كانت دور النشر تتنافس على رواياتنا، والقراء يقبلون بالملايين على أعمالنا، والكل يحلم بالعيش هناك لأن كاتالونيا كانت الإقليم الأكثر انفتاحاً وتعدديةً في إسبانيا. وهذا ما يجعل من تلك المظاهرة مشهداً جميلاً وسلمياً، لكن حازماً وعادلاً في آن معاً.

لا شيء يمكن أن تحسد عليه إسبانيا الدول الأوروبية الأخرى العريقة، لأن حدودها مرسومة بوضوح منذ مئات السنين، وأنا كأميركي لاتيني أعتزّ بالبلد الذي تبنّاني، وبوحدته التي تعود إلى عهد اكتشاف أمريكا التي رفع قامتها وأعطاها لغته التي تسمح لنا اليوم بالعبور من المكسيك إلى أقاصي تشيلي مسافة تزيد عن 8 آلاف كيلومتر متنقلين بين الأراضي المتآخية بفضل اللغة والروابط المشتركة.

هذا ما دار في خلدي عندما كنت أشاهد آلاف الكاتالونيين يفتخرون بولائهم للدستور ولإسبانيا، الذي لا يتعارض مع الولاء للانتماء الذاتي إلى الثقافة التي تطالب بحقها في لغتها من غير أن تخجل من انتمائها إلى وحدة أوسع. اللغة الكاتالونية التي تعلمتها غنيّة ومتنوعة، وهي أثمرت عدداً من كبار الشعراء والكتّاب الرائعين الذين يشكّلون هم أيضاً جزءاً لا يتجزأ من إسبانيا بفضل إرادة الكاتالونيين أنفسهم. إن استخدام اللغة الذاتية والحفاظ عليها ليسا موضع نزاع أو جدل، وهذا لا شك أن فيه ما يثري إسبانيا التي تعتزّ بكل الثقافات التي تزخر بها، ولا علاقة لكل ذلك بالاستقلال. كاتالونيا جزء أساسي من إسبانيا، لها لغتها الخاصة، وأعيادها، وتقاليدها، ومطبخها وعاداتها الجميلة. كل الدول هي حصيلة تراكم تقاليد ثقافية عديدة، لها خاصياتها المميزة التي تتمازج مع بعضها البعض من غير أن تخسر هويتها أو تتنازل عنها، وتجعل منها كياناً متعدداً، متنوعاً ومنفتحاً. ولذلك اختلطت الرايات الكاتالونية بالإسبانية في تلك المظاهرة، وارتفعت الهتافات تنادي، بلا خجل، بأن الولاء لكاتالونيا لا يتعارض مع الولاء لإسبانيا، وأن مشاعر الاعتزاز بالانتماء إلى الإقليم تكمّل مشاعر التضامن مع البلد الذي يحتضنه.

أسفت كثيراً لعدم تمكني من الوجود هناك لأحمل باقة ورد أعرب بها عن رفضي المحاولات الانفصالية التي تسعى إلى ضرب وحدة إسبانيا التي لا خوف عليها في عهدة أولئك الذين خرجوا يتظاهرون تحت شعار «ليس باسمي».