مها محمد الشريف
كاتبة سعودية مختصة بقضايا الشرق الأوسط والعالم، كتبت في العديد من الصحف الرسمية السعودية وصحيفة «الرؤية» الإماراتية، وتكتب بشكل دائم في صحيفتَي «الجزيرة» و«الشرق الأوسط». لها اهتمامات بالرسم والتصميم الاحترافي.
TT

«إمبراطورية الأكاذيب»

استمع إلى المقالة

هناك نقاط لا بد من الإشارة إليها، وهي أن السياسي يحاول جاهداً فهم تعقيدات العلاقات السببية التي تتحكم بالأحداث، بهذا المعنى سنضرب مثالاً شبيهاً بتلك التعقيدات بمسلسل مكسيكي تلفزيوني اسمه «إمبراطورية الأكاذيب»، ولعل اسم المسلسل تكرر اليوم في السجال بين أميركا والصين، ويتكون من سلسلة حلقات درامية متتابعة تذاع على التلفاز، وكل حلقة تقدم أحداثاً معينة، وتكتمل الأحداث في الحلقة التي تليها، وهكذا. وتدور القصة حول ضابط شرطة متواضع وصادق يدعى «ليوناردو»، وامرأة شابة من عائلة ثرية تدعى «إليسا»، يقعان في حب بعضهما، وبعد مقتل والد «إليسا» وخطيبة الشرطي السابقة «جوليا» في ظروف غريبة، يحقق الزوجان في الوفاة الغامضة لاكتشاف الحقيقة، ثم يكتشفان معاً أسراراً قوية لعالم الفساد الذي لم يعرفاه.

كم هو فوضوي ومشوّش الفساد في العالم الذي تجسده الدراما التلفزيونية؛ إذ نراه جواباً لكل معضلات الحياة، وقد يكون أحياناً أمراً فاجعاً وكارثياً! يبدو أن أحداث مسلسل قديم عاد مجدداً بأحداث متسارعة بالغة الأهمية بين واشنطن وبكين على قدر وافٍ من الكفاية؛ إذ ظل المجتمع السياسي مغلقاً بسبب التجربة السياسية نفسها، فالحياة السياسية معركة وصراع دائم، وخاصة عندما يُمس مصير العلاقات، وتخرج عن نطاق سيطرتها وقدرتها على التحكم بها، وذلك بعد وصف الخارجية الصينية للولايات المتحدة بـ«إمبراطورية الأكاذيب» الحقيقية، رداً على تقرير صادر عن وزارة الخارجية الأميركية يتهم الصين باستثمار مليارات الدولارات سنوياً في جهود التلاعب بالمعلومات. فهل تعد هذه الاتهامات مؤثرة في الخلاف السياسي، أو دفاعاً فعّالاً ضد الخطر الخارجي؟

كل ذلك وسط تنافس متزايد بين بكين وواشنطن حول العديد من الملفات الأساسية، بدءاً من الوجود العسكري الصيني في بحر الصين الجنوبي، إلى إنتاج أشباه الموصلات، مروراً بتكنولوجيا الطاقة النظيفة، معتقدة أنها تهدد النفوذ الأميركي، خصوصاً مع تزايد لجوء بعض الدول النامية إلى المحتوى الصيني، الذي بات يهدد وسائل الإعلام الغربية.هل نستطيع القول إنها قرارات ظرفية للسياسة الحالية تهدف إلى تنظيم الحالات الطارئة، التي تفرضها الظروف الاقتصادية والسياسية؟ كيف يمكن أن تكون نهاية هذا المسلسل بعدما طغى خطاب الحرب على فترات السلام بين الإمبراطوريتين المتناحرتين؟ وكل شيء يتعارض مع الآخر، حلقات ملأى بالأحداث لأمر متشنج بطبيعته عصيّ على التحليل، عندما ذكرت روسيا والصين أن غزو أميركا للعراق غير شرعي، وعاتبت فرنسا أميركا بسبب صفقة الغواصات التي اشترتها أستراليا؛ إذ تحولت الصفقة من فرنسا لأميركا، أضف لما سبق تبرير روسيا لحربها على أوكرانيا بأنها أتت بعد يأس من «الناتو» ووعوده بعدم توسع الحلف منذ تفكك الاتحاد السوفياتي، لكن توسع الحلف وصل لحدود روسيا... سيناريوهات تحمل ذروة الأحداث، مأخوذة من رواية قديمة تشع منها الرغبة في الانتقام، بما أن الولايات المتحدة طرف في حربها الاقتصادية مع الصين باعتبارها منافسها الاستراتيجي الرئيسي ومنافسها الأول، في حين تنظر الصين إلى الولايات المتحدة باعتبارها تهديداً سياسياً واقتصادياً وأمنياً خارجياً رئيسياً.

ولعل استمرار هذا التنافس الشرس يعود إلى كونهما الاقتصادين الأكبرين في عالم اليوم؛ إذ يمثلان معاً 40 في المائة من الناتج العالمي. لا تخلو هذه المقاربات النزقة من قطع أو تحجيم علاقاتهما الاقتصادية، ولا تريدان الانزلاق نحو انفصال كامل بينهما؛ لأن العواقب ستكون كارثية على العالم، ويرى فيه الكثير أمراً ملغزاً غامضاً وباعثاً على الحيرة.

في واقع الأمر، هناك حقائق لا يمكن تبريرها في الحياة، قد نكره العنف أقل مما نكره مؤسساته، فالحرب واحدة مهما تنوعت وسائلها وغاياتها وأهدافها، تؤدي في الغالب إلى توتر حاد في العلاقات الدولية، ومن المتوقع أن تصل التكاليف السنوية لأرقام ضخمة لمثل هذه الحروب، وخاصة بين الصين والغرب، فكل الحروب السابقة عبر التاريخ لم ينتصر فيها أحد، إنما الخسارة شملت الجميع.