قرأت مؤخراً مقالات وتغريدات تهاجم رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك؛ بسبب مواقفه من الهجرة، وتتهمه بالعنصرية والمزايدة على أعضاء من حزبه المحافظ وتطالبه، بسبب جذوره الهندية ولأنه ابن مهاجرين، بمواقف أكثر تفهماً، بحسب وجهة نظرهم.
وفي الواقع، فإن هذه الاتهامات هي العنصرية، وليست قرارات سوناك؛ لأنها تنطلق في موقفها المنتقد عرق سوناك، وتطالبه بناء عليه بأن يتخذ قراراته. أي بما أنه من جذور هندية فيجب عليه أن يقرّ سياسات، ويختار مواقفه السياسية والاقتصادية وربما حزبه بناء على ذلك، وأي خروج عن ذلك يوصف بأنه عنصري، أو يتخذ مواقف متصلبة، حتى لا يوصف بأنه يحابي المهاجرين.
ينسى هؤلاء الناقدون أن سوناك هو رئيس وزراء بريطانيا وليس الهند، لهذا فإن دوره الأساسي أن يخدم مصالح المملكة المتحدة قبل كل شيء. قراراته يجب أن تُرى بهذا المنظور ولو قرر أن يخدم مصالح بلاد أو أمة أخرى سيعدّ خيانة. بمجرد أن يأخذ الشخص جنسية بلد آخر فهو ملزم بخدمته والحفاظ على مصالحه والدفاع عن ترابه. وهذا ينطبق على كل البلدان وليس فقط الدول الأوروبية، فلو أن شخصاً أصبح عراقياً أو مصرياً أو سعودياً فيجب أن تكون مواطنته الكاملة خالصة لهذا البلد حتى لو كان قادماً من أقاصي آسيا أو أفريقيا.
وفي السياق نفسه، شاهدت مقابلة أخرى تتحدث عن المفكر الراحل فؤاد عجمي، ويشير المتحدث منتقداً عجمي، الذي تعود أصوله إلى جنوب لبنان، إلى أنه يقول في أحاديثه لوسائل الإعلام: «نحن الأميركيين»! وكأن هذا عيب أو نقيصة، ولكن العكس هو الصحيح. نعم هو أميركي كامل وخالص منذ أخذ الجنسية، ولم يعد لبنانياً حتى لو كانت جذوره كذلك. ولكن فكرة الاستنقاص منه وجعله يشعر بالحرج، والتوقُع منه أن يتخذ أفكاراً بناء على عرقه أو جذوره... هي، مثل سوناك، نوعٌ من العنصرية المستترة.
عجمي انتُقد كثيراً بسبب مواقفه من الغزو الأميركي للعراق الذي عدّه تحريراً من «الديكتاتورية البعثية»، ولكنّ ناقديه اتهموه بالخيانة واغتالوا شخصيته؛ بسبب خلفيته ومكان ميلاده. ويتهمونه بأنه «معادٍ للقضايا العربية» كما يصفونها. وبالطبع بالإمكان انتقاد عجمي بكل قسوة ولكن ليس بناء على جذوره وطفولته، بل بناء على مواقفه الفكرية والسياسية بشكل خالص من دون أن نخلط عرقه بفكره، ولكن الصحيح أن نفصل بينهما. لذا عندما يقول «نحن الأميركيين» علينا أن نصدقه ونراه أميركياً كامل الأميركية.
على الجانب الآخر نرى الظاهرة ذاتها تحدث مع المفكرين الأميركيين من الجذور السوداء الذين يوصفون بأنهم مثل بسكويت «أوريو»، أي سود من الخارج وبيض من الداخل. من هؤلاء الكاتب المفكر شلبي ستيل، فقد ذكر في كتبه ومحاضراته الانتقادات التي تُوجه له لأنه لا يتبنى العقيدة الآيديولوجية التي لا ترى في العنصرية سبباً في تراجع المجتمع الأسود داخل أميركا، ولكن يعيدها لأسباب ثقافية مثل الإحساس بالمظلومية، وأسباب سياسية عندما يستغلها الساسة لكسب أصوات السود بتعزيز الإحساس بالظلم في أوساطهم، ولسياسات حكومية بسبب تقديم التعويضات التي أدت إلى قتل الطموح ووهن العزيمة (أشرت إلى كتاب شلبي ستيل «عقد الذنب البيضاء» في مقال «لنوقف إطلاق النار على أقدامنا!»). المطلوب من ستيل أن يتبنى الخطاب السائد لدى النخب والساسة والمجتمع الأسود، وإلا سيعد خائناً لعرقه حتى لو كان في ذلك ضرر عليهم وعلى المجتمع الأميركي والدولة. مثل سوناك وعجمي وستيل وكثيرين غيرهم مطلوب أن يحاصروا بعرقهم وجذورهم ولا يخرجوا عن هذه القوالب الآيديولوجية حتى يوم وفاتهم وإلا سيعدون خائنين وخارجين عن مبادئ أمتهم. ولكن ستيل يرى في نفسه أميركياً قبل أي شيء آخر، ويبحث عن الخير لها من دون أن يؤثر عليه أي شيء آخر.
هذا النوع من العنصرية والاستنقاص من كل أحد يأتي من جذور مختلفة بأن عليه أن يؤمن بأفكار معينة ويتبنى خطاباً محدداً هدفه الابتزاز الفكري والنفسي، بحيث تمنع الأشخاص أن يختاروا الفكر أو الحزب أو البلد الذي يريدون، بناء على خلفياتهم الإثنية والثقافية، والهدف الآخر هو منع تشكُل نماذج أو موديل يحفز الشباب ليسلكوا الطريق ذاتها من دون خوف، لهذا هم يتعرضون سريعاً للاغتيال وتحطيم السمعة. لكن الواقع أن الإنسان حر في أن يختار ما يريد، ولا علاقة لطفولته وجذوره بأن تدفعه نحو نمط معين من التفكير والانتماء السياسي كما يطالبون، وخياره لجنسية بلد معين يعني ولاءه الكامل له والدفاع عنه، وليس خيانته والتنكر له.