د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

مستقبل المقال والخبر وذكاؤنا

استمع إلى المقالة

انخفض عدد الصحافيين في أميركا بنسبة 60 في المائة! كان عددهم في عام 1990 نحو 458 ألفاً، ثم هبط إلى 183 ألفاً بحلول عام 2016، حسب «الغارديان». المنطق يقول إن القطاعات عادة ما ينمو عدد العاملين فيها، أي لا تتدهور مع الوقت. ما حدث أن المؤسسات الصحافية صارت تبقي على الموهوبين فقط في مجالاتها، وقلَّصت خدمات لم تعد ذات مردود مادي، بعد تدفق أنهار الإعلانات إلى منصات أخرى.

المفارقة، أن الصحافة الأميركية والعالمية ما زالت تحتفظ بكُتاب أعمدة لامعين. وهو أمر يتوقع أن يستمر لردح طويل من الزمن؛ لأنهم بمثابة أيقونة المؤسسة، أو ربما «نجوم الشباك» بلغة السينما، إن جاز التعبير. كما أن الإنسان سيبقى متطلعاً لقراءة أو سماع آراء متخصصين ومحترفين في إيصال المعلومة، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ما يمكن أن يحدث أو يتغير قليلاً، هو أن نجد مثلاً زاوية نطلق عليها «الكاتب الذكي»، وهي من وحي خيال الذكاء الاصطناعي، لنقرأ ماذا يقول لنا «ذكاؤه التوليدي» في شتى القضايا.

المؤسسات العريقة بدأت رحلة الاستفادة من الذكاء الاصطناعي، فـ«بي بي سي» مثلاً لديها «العصارة» (Juicer) وهو برنامج يفرز المادة الصحافية لأخبارها وغيرها من مواقع إخبارية، ويصنفها، ثم يقدم «عصارتها» حسب 4 فئات: الناس، والأماكن، والمؤسسات، والأشياء. وبدأت تتشكل ملاحم مستقبل وكالات الأنباء وغيرها. من ذلك تجربة «رويترز» مثلاً التي قدمت «Lynx Insight» وهو برنامج ذكي يحلل البيانات للصحافيين، ويكتب لهم بعض العبارات، والأهم الذي يشغل بال كل صانع محتوى صحافي أنه «يقترح لهم أفكاراً صحافية»!

شقيقتها وكالة الأنباء «AP» الأميركية، حاولت الاستعانة بالذكاء الاصطناعي، فتمكنت من استخراج تقارير منهجية، فتضاعفت الإنتاجية من 300 مادة إلى 3000 مادة. كما أن ثلث ما تنتجه «بلومبرغ» يمر عبر تقنية الذكاء بشكل أو بآخر.

الصحيفة التي أطاحت عرش الرئيس الأميركي نيكسون في فضيحة «ووترغيت» حازت جائزة تقديرية (لتغطية انتخابات 2016) بعدما استفادت من برنامج آلي يطلق عليه اختصار «Heliograf»، فجادت قريحته في العام الأول بنحو 850 قطعة صحافية. وتجربة «واشنطن بوست» تستحق التأمل، وكذلك غريمتها «نيويورك تايمز» التي نجحت في إضفاء لمسة شخصية على موادها المقدمة للقراء عبر الرسائل البريدية، بعد ترميز موادها وصورها، لتقدم مادة مصممة «tailored» لمزاج القارئ.

ذكرتُ ذلك أمس في منتدى الإعلام العربي في دبي، بوصفي متحدثاً رئيسياً في إحدى جلساته الحاشدة، وتطرقتُ إلى أهمية أن تستفيد المؤسسات الإعلامية من البيانات الضخمة «big data» في معرفة مزاج القارئ واختياراته. وهو ما نجحت فيه أكبر سلسلة «سوبرماركت» في بريطانيا (تسكو) عندما استعانت بعلماء حللوا بياناتها، فاكتشفت أن 41 في المائة من مبيعاتها تأتي من 4 في المائة من عملائها المميزين، وليس من أولئك المحتملين «potential» أو من تغدق عليهم الحملات التسويقية خزائنها.

تلك المعلومات الضخمة، مثل: ماذا يُطبع، وماذا يُلتقط عبر الهاتف، وماذا يشارك لو استفدنا منها جيداً بالتحليل العميق، سنتوصل بها إلى معلومات مذهلة تنقل مادتنا إلى آفاق جديدة، في انتقاء الأخبار وكُتاب الأعمدة الذين يتفاعل معهم القراء.