في كتابه، «فصول ممتعة»، أبدى محمد سيد كيلاني ملحوظة مهمة تتعلق بالتاريخ الفكري لرجال الأزهر، أثناء حديثه عن قضية رسالة منصور فهمي للدكتوراه في فرنسا، التي طلبت صحيفة «المؤيد» في البداية - وهي التي أثارت ضجة حولها - من رجال الدين في مصر أن يعملوا على إيقاف تيار الإلحاد حتى لا تفسد عقول الناشئة.
ملحوظته المهمة هي قوله: «ولم ينهض أحد من رجال الدين للرد على منصور فهمي، لأنهم كانوا يعتقدون – حتى ذلك الوقت – أن الرد على الملحدين والمبشرين يفتح باب الفتنة أمام المسلمين. ولهذا السبب أنكروا على الشيخ محمد عبده أن يردّ على الطاعنين في الإسلام من كتاب الغرب. ولا حاجة بنا إلى القول بفساد هذا الاعتقاد، لأن الزمن قد قضى عليه، وأصبحنا نرى كثيراً من الأزهريين يؤلفون الكتب دفاعاً عن الإسلام، ورداً على خصومه».
وفي ظني أن هذا الاعتقاد الذي وصفه محمد سيد كيلاني بالفاسد يخفي وراءه عجزاً عن الرد، لافتقارهم في ذلك الحين إلى وعي ديني معاصر، وإلى الاطلاع على معالم الثقافة الغربية الأساسية؛ فهو مجرد تبرير وتغطية لعجزهم وقلة حيلتهم، إذ انتحلوا سبباً يقنع العامة الملتفين حولهم، والموقرين لعلمهم الديني المحدود.
إن تلك الملحوظة المهمة يمكن قولها أيضاً بصدد التاريخ الفكري لرجال الدين في السلك الديني الرسمي بالسعودية في العصر الحديث؛ فهم إن ردوا، فردودهم تأخذ صيغة الفتوى الملزمة وصيغة التقرير الوعظي الزجري.
يذكر إبراهيم عوض في كتابه: «كاتب من جيل العمالقة...»، في عرض منافحة محمد لطفي جمعة عن الإسلام وعن تاريخه أن «من جهاده في سبيل الإسلام أيضاً ما كتبه؛ تفنيده لمزاعم محمد سيد كيلاني في كتابه عن الشريف الرضي الذي ألفه عام 1937م... إلى آخر ما ذكره د. محمد لطفي جمعة في رده المفحم الذي لم يُنشر رغم ذلك مع الأسف، وأطلعني عليه مشكوراً ابنه المستشار رابح لطفي جمعة، وأهداني منه نسخة مصورة. وقد أخبرني الأستاذ رابح أن والده، رحمه الله، بعد أن كتب ما كتب في الرد على هذا الإفك عاد فعدل عن هذا التفكير في نشره، لأنه رأى أن كيلاني أقل من أن يؤبه به أو يشغل الناس بترهاته وسخافاته. وكان قد وصفه في ذلك الرد بالسخف والجهل والغرور والتطفل والوقاحة. وقال إنه نكرة من النكرات، كما اتهمه بأنه يريد تلويث سمعة الإسلام وطعنه في ظهره».
لو كان محمد لطفي جمعة نشر رده على كتاب محمد سيد كيلاني الأول، لما كانت سابقته في الإلحاد منسية، ولما كان ساعده عدم وجود رد على كتابه الأول على إخفاء تاريخ إلحاده القديم عن أفواج الكتاب الدينيين وزمر الكتاب العلمانيين.
السبب الذي ذكره محمد لطفي جمعة لطي رده عن النشر لا يقول الصدق ولا ينطق بالحقيقة؛ فمنصور فهمي حين حصل على درجة الدكتوراه بعد إنجازه كتابة رسالته باللغة الفرنسية عام 1913، وطبعها في كتاب في العام نفسه وباللغة ذاتها، كان عمره يزيد على عمر محمد سيد كيلاني حين ألَّف كتابه: «الشريف الرضي»، عام 1937، بنحو سنتين. فعمر الأول كان 27 عاماً، وعمر الثاني كان 25 عاماً. وكان اسماهما قبل ذينك التاريخين غير معروفين.
السبب فيما أراه هو أن منصور فهمي كان في عام 1914 أستاذاً جديداً في الجامعة المصرية الأهلية، وكان من أوائل الأساتذة المصريين فيها الذين عادوا من فرنسا بشهادة الدكتوراه، بينما محمد سيد كيلاني كان موظفاً صغيراً في وزارة الأوقاف، وحين ألف كتابه الأول، لم يكن أكمل تعليمه الدراسي.
وهذا يعني أن محمد لطفي جمعة «ينظر إلى مَن قال وليس إلى ما قيل»، ينظر إلى مَن قال بحسب درجته الوظيفية في المجتمع المصري، وبحسب تأهيله العلمي! وإلا فكتاب محمد سيد كيلاني الأول لا يقل خطراً عن رسالة منصور فهمي للدكتوراه، بل هو أكثر خطراً منها على التفسير الديني.
الشريف الرضي من كبار شعراء العرب، وله مكانة عليا عند الشيعة الاثني عشرية لأسباب دينية، لأنه من أحفاد علي بن أبي طالب، ولأنه حسيني النسب، ولأنه من زعماء الاثني عشرية، وتولى نقابة الطالبيين.
فقادني الفضول إلى البحث في مؤلفاتهم الحديثة عما يقولونه عن كتاب محمد سيد كيلاني الشريف الرضي. وبحسب بحثي عثرت على كتاب اسمه «مصادر نهج البلاغة وأسانيده» للسيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب، تعرض له بالنقد في الجزء الأول من كتابه ص 343، طبعة عام 1966.
يقول: «وثامنهم محمد سيد كيلاني سماه (الشريف الرضي). والحقيقة أن هذا الكتاب يختلف عن محتوياته فظاهره ترجمة الرضي وباطنه التطاول على الإسلام، والتجاسر على القرآن والطعن في الشريعة، والذم للخلفاء الراشدين والاستخفاف بعلي والحسين. انظر: ص 72 إلى 75».
مربط الفرس هو جملته الأخيرة «والاستخفاف بعلي والحسين». والحق أن محمد سيد كيلاني لم يستخف بعلي بن أبي طالب ولا بابنه الحسين بن علي، بل ما فعله هو مجرد تقويم سياسي محض لهما، خالٍ من الاعتقاد الديني السني حولهما. وحينما نفعل ما أمرنا به من النظر في صفحة 72 إلى ص 75 من الكتاب، نلقى ما يلي:
التشكيك في قصة هجرة النبي إبراهيم وزوجه هاجر وابنهما الصغير إسماعيل إلى مكة. وقصة رفض عمر بن الخطاب في عهد أبي بكر الصديق إعطاء «المؤلفة قلوبهم» نصيبهم من الصدقات، واعتباره هذا العمل مخالفة لما جاء في القرآن، ومخالفة لما أقره النبي في حياته.
تعليقاً على الشق الأول من الصفحات المشار إليها أقول: نحن نعرف أن طه حسين قبل محمد سيد كيلاني شكك في قصة هجرة النبي إبراهيم وهاجر وإسماعيل إلى مكة، وبسبب تشكيكه هذا وطعنه برواية تاريخية قرآنية اتهمه أصحاب الوعي الديني في مصر بالكفر والمروق من الإسلام. ولا أعلن عن سر مخفي إذا ما قلت إن رجال السلك الديني الاثني عشري لم يكتبوا حرفاً واحداً في نقد طه حسين حين شكك في تلك القضية الثابتة قرآنياً.
وأما الشق الثاني في تلك الصفحات المشار إليها فأقول تعليقاً عليه: الاثنا عشرية لا يضيرهم دينياً التعرض لعمر بن الخطاب بنقد، لأن نقده مِن مقتضيات مذهبهم.
كتاب محمد سيد كيلاني ليس فيه باطن؛ فكتابه كتاب ظاهري جِداً، فهو لا يحتاج إلى قراءة ما بين السطور والبحث عن مخفي ومضمر فيه. ومحمد سيد كيلاني لم يؤلف كتابه على طراز أقدمينا في كتب التراجم، وإنما على طريقة التآليف الحديثة في هذا الصنف من الكتب وذلك من خلال دراسته عصر الشريف الرضي، سياسياً، واجتماعياً، وشعراً، ونثراً. وبسط الحديث عن أسرته ونسبه، وفي هذا الفصل تحدث عن مشكلة الخلافة. وأفرد الفصل الأخير لأدب الشريف الرضي.
إن ما أنكره السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب على محمد سيد كيلاني هو تقويمه السياسي المحض لمطالبة علي بن أبي طالب وابنه من بعده الحسين بالخلافة، ولأن كتابه تضمن نقداً للمذهب الشيعي. وهذا ما تصنفه هذه الطائفة الكريمة بأنه انتهاك لمقدسها الديني واعتداء على مداركها العليا.
ما يستحق الذكر أن المؤلف حذف في الطبعات اللاحقة من كتابه «مصادر نهج البلاغة وأسانيده»، الأسطر التي اقتبستها من طبعة 1966.
ولا بد أن بعض أصدقائه من رجال الدين أشاروا عليه بذلك. ففي تقديرهم أن ذكر كتاب كيلاني عن الشريف الرضي - حتى على سبيل تجريحه - ضرره أكبر من نفعه، خصوصاً أن الكتاب كتاب مجهول عند العامة، وقلة قليلة من خاصة الباحثين تعرفه. وللحديث بقية.