ماريو فارغاس يوسا
روائي بيروفي حاصل على جائزة «نوبل» في الأدب عام 2010. يكتب مرتين شهرياً في«الشرق الأوسط».
TT

عودة إلى الجنّة

استمع إلى المقالة

بعد 8 سنوات عدت إلى الجنّة. أتذكّر دوماً ذلك النهار، منذ عشرات السنين، عندما كان أرنست كيلير، رجل الأعمال السويسري المقيم في البيرو، حيث أنشأ مؤسسة تربوية، ينتظرنا، زوجتي وأنا، ومعه رزمة من البطاقات لحضور حفلات المهرجان الصيفي الذي يمتدّ منذ أواخر يوليو (تموز) حتى نهاية شهر أغسطس (آب) في مدينة سالزبورغ. «هذه هديتي لكما لخوضكما معركة الانتخابات الرئاسية. سبق أن وعدتكما بها، وها أنا قد وفيت»، كان يقول لنا أرنست. كانت مجموعة من البطاقات لجميع حفلات المهرجان الذي تأسس عام 1920 في هذه المدينة الساحرة، ويستضيف أشهر الفرق الموسيقية والمطربين وقادة الأوركسترا في العالم. كان ذلك الوجه الإيجابي الوحيد في تلك الحملة الانتخابية التي تركت في ذاكرتي أثراً أليماً. ومنذ ذلك الوقت كنت أتردد مع زوجتي باتريسيا كل صيف على هذه المدينة، نتمتّع بالموسيقى العذبة ونشاهد أجمل عروض الأوبرا، وكنت أواظب على قراءة تلك الصحف والمجلات المتخصصة في الشأن الموسيقي قدر ما يتيح لي الوقت الذي كان دائماً دون ما تشتهيه النفس ويرغب الفؤاد به.

ومنذ زيارتي الأولى التي كانت بفضل أرنست كيلير، تتكرر الطقوس ذاتها في كل مرة: نستيقظ باكراً، نتناول الفطور ونقوم بنزهة على ضفاف نهر سلزاخ الذي يشكّل الحدود الطبيعية بين النمسا وألمانيا. إذا كان الطقس صحواً، تستغرق النزهة زهاء ساعة ونصف الساعة قبل الذهاب لحضور الحفلات الموسيقية الصباحية. أما في الأيام التي لا تنظّم خلالها حفلات صباحية، كنت أنصرف إلى المطالعة المكثفة، عادة للروايات التي أراكمها طوال العام وتتعذّر عليّ قراءتها بسبب من قلة الوقت. إنها متعة حقاً مطالعة هذه الكتب التي غالباً ما أجد بينها روائع تستثير الحسد، وأخرى تستحق التبجيل والتقدير.

الحياة هدهدة ناعمة في هذه البقعة الراقية. العادات هنا يبدو أنها لم تتغيّر منذ زيارتي الأولى إليها في عام 1987. المطاعم نفسها التي كنا نتردد عليها ونتلذذ بما تقدمه من أطايب المأكولات النمساوية التقليدية، والمقاهي التي كنا نتناول فيها أشهى الحلوى التي تشتهر بها هذه المدنية.

لكن الزيارات التي نقوم بها إلى المطاعم معدودة، وباستثناء الحفلات الموسيقية العديدة، أكرّس الوقت لمطالعة الروايات التي تعذّرت قراءتها بسبب من انصرافي لأمور أخرى، دائماً في المجال الأدبي. يؤسفني جداً أن كثيرين يخصصون لأمور أخرى الوقت الذي أكرّسه أنا لمطالعة الروايات وتلك الكتب الرائعة التي تنقلنا إلى عوالم مبنيّة على تحويرات ذكية وتشويهات فطنة للحياة الحقيقية. ولو كان الأمر غير ذلك، لما كانت تلك الروايات تستحق المطالعة، رغم أن العديد منها يوقظ شهيّتنا ويدفعنا إلى البحث عن النقطة التي يصبح الواقع عندها مجرد شرفة نطلّ منها على السماوات والجحيم، لأن كل شيء في الرواية التي هي، وستبقى دائماً، نقطة البداية في رحلة الفانتازيا والخيال.

بين رواية وأخرى ننعم بمتابعة المستجدات في عالم الأوبرا والموسيقى الكلاسيكية. عندما تأسس هذا المهرجان كان برنامجه مقصوراً على موتسارت الذي كان مسقط رأسه في هذه المدينة، وعلى جوهان شتراوس، لكن بفضل بعد رؤية هربرت فون كاراجان، الذي كان المدير الفني للمهرجان طيلة عقود، اتسعت دائرة المشاركين فيها وانفتحت على العالم وما زالت إلى هذه الأيام. هذه هي السعادة، الموسيقى والكتب، وهي في متناول كثيرين. وما نمضيه من أيام هنا يعوّض عن الإحباط والسأم طيلة عام بكامله، لأننا نعيش في عالم الخيال والسراب الذي يبنيه البشر للهرب من وساخة الزمن ونفاقه والارتقاء، بفضل الأحلام، إلى مراتب أغنى وأعمق من الواقع.

إني على يقين مطلق من أن الشعوب التي تكثر من المطالعة تكون لها أنظمة ديمقراطية راسخة أكثر من تلك التي تحتقر الرواية باعتبارها في مرتبة أدبية دنيا. هذا ضرب من الحماقة، لأن الفطنة تقضي بالسير على دروب الفانتازيا التي هي الباب إلى الاختراعات الكبرى، وإلا لكانت البشرية اليوم لا تزال كما في العصور الأولى. والبشر تطوروا بفضل الروايات التي كانت نقطة انطلاق الإنسان لتوسيع دائرة معارفه. ولأن الموسيقى هي أحد رموز الفانتازيا، اعتُبر سالزبورغ مرادفاً ليس لمهرجان موسيقي فحسب، بل أيضاً لمهرجان روائي، لأن الموسيقى العذبة تحفّز على المطالعة الجيّدة، ولذلك أنعزل لقراءة الروايات كلما جئت إلى هنا. فالروايات مصدر إلهام لجأ إليها الناس منذ قديم الزمان، في فترات الإحباط أو الأزمات التي لا تشفي منها غير تلك الكتب التي أنكبّ حالياً على قراءتها مثل «ساحر الكرملين» التي تتناول علاقات فلاديمير بوتين مع حاشيته في تلك الجنة التي يعتقد أنه بناها على أعمدة الرعب.

في سالزبورغ نتبيّن أن المطالعة ليست مضيعة للوقت كما يعتقد العديد من الساذجين. ومن غير الفانتازيا التي تضرمها فينا تلك الحكايات الصاخبة التي تقدح شرارة الأحلام، لما كان هناك تطور. والحنين إلى الكتب التي لم نقرأ يتزايد في مثل هذه الظروف، إذ ليس أروع من تمضية الوقت، عندما لا أكون في سالزبورغ، بقراءة الروايات التي تحملني دائماً إلى تجاوز الآخرين على أجنحة الأحلام.

عندما لا أكون منصرفاً إلى المطالعة أو سماع الموسيقى، أجول في هذه المدينة التي تبدو وكأنها لم تتغيّر كثيراً منذ عهد موتسارت. وهي أقرب ما تكون إلى متحف في الهواء الطلق، يتكيّف الناس مع أجوائها كما لو أنهم يتنقلون على صهوات الخيول عوضاً عن السيارات. والسياح الذين يتوافدون إليها بأعداد غفيرة سعياً وراء الأحلام التي تتولّد عند بعضنا من صفحات الكتب، يترددون على المطاعم والمقاهي الشعبية المنتشرة في الشوارع المرصوفة بأناقة ونظافة متأصلة في عادات سكان هذه المدينة الذين يعرفون كيف يأخذون من الحضارة من غير أن يتنازلوا عن عاداتهم وطقوسهم القديمة التي يعشقها الزائرون ويتمنون مثلها في ديارهم.

انتهى هذان الأسبوعان اللذان أمضيتهما في هذه البقعة الهادئة من النمسا، بعد أن شاهدت عرضاً رائعاً لأوبرا «ماكبث» التي وضعها فردي، ولأول مرة أوبرا «الطرواديون» التي وضعها برليوز، وفي قلبي حسرة لمغادرة هذه القطعة من الجنة. عام آخر يفصلني عن الموعد المقبل عندما تعود الكتب تتراكم في جعبتي، إلى جانب تلك التي أكون قد فرزتها عن غيرها، لعناوينها أو لفقرات معيّنة فيها، تنتظرني لألتهمها هنا في مثل هذه الأيام بعد اثني عشر شهراً من الآن.