مع أن محمد لطفي جمعة –كما مر بنا في المقال السابق– قد شهد لمنصور فهمي في مذكراته، بأنه تاب وأناب وندم على ما جاء في رسالته للدكتوراه في محفل توديع عام 1937، فإنه في الجزء الأول من كتابه (ثورة الإسلام وبطل الأنبياء، أبو القاسم محمد بن عبد الله) الصادر عام 1939، استضعف عقله واستصغره، فعدّه من أصحاب «صغار الأحلام من الباحثين»!
وكان قد مر بنا قوله في هذه الشهادة عن رسالته التي طبعت في كتاب: إن الكتاب «مطبوع في باريس سنة 1913 عند لورن».
الكتاب (حال المرأة في التقاليد الإسلامية وتطوراتها: بحث تاريخي وسسيولوجي) –كما ذكرنا في مقال (عُنّة لغوية)– صدر عن مكتبة (فيلكس ألكان) وليس عن (دار لورن). وأهمية هذا الخطأ أنه يؤكد معلومة قيلت عن ملابسات الضجة التي أثيرت حول رسالة منصور للدكتوراه في صحيفة (المؤيد) عام 1914.
وهي أن أجزاء من الرسالة سُرِّبت إلى جريدة (المؤيد) التي بدأت التحريض عليه. فهذه الجريدة هي التي أطلعت لطفي جمعة عليها. فلو كان الكتاب كاملاً في حوزته لما كان أخطأ في اسم دار النشر.
لعلكم لاحظتم أنه في الرسالة الخاصة والشخصية المنشورة في المقال السابق التي بعثها كيلاني إلى خصم منصور فهمي اللدود لطفي جمعة، كتب اسم ليفي– بريل بهذا الرسم: ليفي- برول، فهل أخطأ بكتابة اسمه هكذا؟
هو تلقى اسمه من منصور فهمي مشافهة؛ إذ نطق أمامه اسمه بأنَّه ليفي- برول وليس ليفي– بريل.
الأغلبية في اللغة العربية تكتب اسمه بهذا الرسم: ليفي بريل، وعدد قليل منهم يكتبه بهذا الرسم: ليفي برول.
سألت صديقاً يقرأ باللغة الفرنسية عن أيهما الصحيح في رسم هذا الاسم ونطقه، فأجاب: إن ليفي– برول، هو الصحيح رسماً ونطقاً. وأضاف: إن اسم بريل غير مستعمل في فرنسا. فهذا الاسم مستعمل في هولندا.
ومن الطريف الذي يحسن ذكره عن هذا الخطأ الشائع، أن فؤاد زكريا في أسطر متتالية في دراسته (الجذور الفلسفية للبنائية) جمع بين هذين الرسمين المتباينين رسماً، والمتباينين نطقاً لاسمه:
«الواقع أن بعض هؤلاء، مثل ليفي برول Levi– bruhl، قد ارتكبوا أخطاء أشد بكثير مما وقع فيه ستروس، على الرغم من أنهم أكدوا أن عقل الإنسان ليس أزلياً وليس ثابتاً. فعند ليفي برول تقسم المجتمعات البشرية إلى مجتمعات خلت من المنطقية... وهي المجتمعات البدائية، وأخرى متحضرة هي وحدها التي تعرف التفكير. ولقد كان ستروس على حق تماماً في رفضه القاطع تقسيم الإنسان إلى منطقي وغير منطقي. ونقد ليفي بريل بشدة؛ لأنه شبه العقلية البدائية بعقلية الأطفال أو المجانين؛ لأن هذا كله يرجع إلى اتخاذ ليفي بريل نظرة مرتكزة حول الذات...».
إن فؤاد زكريا -كما ترون- كتب اسمه في البداية كما يجب أن يرسم، لينطق نطقاً صحيحاً، ثم ما لبث أن كتبه –لا إرادياً– حسب الخطأ الشائع المنتشر باللغة العربية.
وهذا يشير إلى صحة القاعدة التيسيرية التي تقول: «الخطأ المشهور خير من الصواب المهجور»، وأنها تنسحب -أيضاً- على أسماء الفرنجة!
واتباعاً لهذه القاعدة –التي هي بالنسبة لي قاعدة ذهبية– أخذت بالخطأ المشهور، وتركت الصواب المهجور في كتابة اسمه ونطقه نطقاً صحيحاً!
كيلاني في الرسالة الخاصة والشخصية التي بعثها إلى لطفي جمعة كتب اسمه، كما سمعه من تلميذه منصور فهمي: ليفي برول، مع علمه أن لطفي جمعة في مقاله المنشور في صحيفة (المؤيد) في الثامن والعشرين من يناير (كانون الثاني) سنة 1914، كتبه بهذا الرسم: ليفي بريل. لكنه في موضوعه (منصور فهمي بين الكفر والإيمان) الذي هو من ضمن موضوعات كتابه (فصول ممتعة) كتبه على طريقة لطفي جمعة: ليفي بريل. ولطفي جمعة هو الأصل في هذا الخطأ المشهور.
يستقي معظم الإسلاميين معلوماتهم عن قضية منصور فهمي من كتاب أنور الجندي المرجعي (المعارك الأدبية في مصر منذ 1914/ 1939) الذي صدر في أول طبعة منه عام 1959؛ لأنه كتاب مشهور في التاريخ الأدبي المعاصر، ولا يستقونها من كتاب كيلاني (فصول ممتعة) الذي صدر في العام نفسه؛ لأن هذا الكتاب كان كتاباً مغموراً.
يتفوق حديث كيلاني عن قضية منصور فهمي على حديث أنور الجندي عنها من نواحٍ عدة. ولسنا بصدد تعداد هذه النواحي؛ لكن يكفي أن نذكر أن حديثه عنها كان أوفى وأخصب مادة. أما حديث أنور الجندي عنها، فلقد كان حديثاً ناقصاً ومبتسراً، وإن ادعى حين قدم ترجمة لمنصور فهمي في كتابه (أعلام وأصحاب أقلام) الصادر عام 1968، أنه تناول في كتابه (المعارك الأدبية) قضية منصور فهمي بالتفصيل.
في الرسالة الخاصة والشخصية التي بعثها كيلاني إلى لطفي جمعة، لا نلمس فيها أي موقف ناقد؛ لكن هذا الموقف الناقد برز بقوة في كتابه (فصول ممتعة).
موقفه الناقد كان من صنف النقد المتحامل عليه في سنوات ما بعد فصله من الجامعة المصرية التي اضطر فيها أن يعود إلى قريته ليعمل بالزراعة فيها، ثم ترك الفلاحة ليعمل بإحدى الوظائف الحكومية البسيطة.
نقد كيلاني المتحامل عليه جعله يتبنى رواية قالها عنه الشامتون به، مع أنه باحث ومثقف، يجنح إلى العقلانية في الفهم والتفكير بإفراط.
هذه الرواية، هي قوله: «وقد حدثني بعض الناس، فقال: لما نشرت الصحف ما نشرت عن منصور فهمي، اضطر إلى الاختفاء من المجتمعات؛ لأن العامة وبخاصة الصبيان، كانوا يجرون خلفه صائحين بقولهم: ها هو الرجل الذي كفر، ها هو الرجل الذي كفر. ولم يجد مناصاً من مغادرة القاهرة والانزواء في قريته شرنفاس»!
سبحان الله، ما يدري العامة وما يدري الصبيان في القاهرة بما نشرته (المؤيد)، وبما كتبه محمد لطفي جمعة فيها عن رسالته للدكتوراه؟!
القاهرة في ذلك الحين مدينة شبه كوزموبوليتيكية، وليست بلدة ولا قرية يعلم أهلها بالأخبار التافهة قبل علمهم بالأخبار الضخمة. والقاهرة في ذلك التاريخ كانت تضم جماعات ليبرالية منتشرة في الجامعة المصرية وفي الأحزاب وفي الصحف وفي المجلات وفي الوزارات الحكومية، في وظائف متوسطة وفي وظائف عليا فيها.
وهؤلاء كان يتكون منهم مجتمع كامل داخل المجتمع القاهري، يدعى مجتمع النخبة الليبرالية، الذين لا ينظرون إليه على أنه كافر وضال، فيغرون عامتهم، ويشجعون صبيانهم بمطاردته وهو يمشي في شوارع القاهرة، ويحرضونهم على إيذاء مسمعه بترديد هتاف مزعج، يقول إنه كافر.
إن هذه الرواية لو كانت رواية صحيحة، لما عاد إلى قريته شرنفاس. فأهل قريته لا بد من أنهم سألوا أنفسهم: لماذا بعد حصوله على الدكتوراه من فرنسا، وتعيينه أستاذاً في الجامعة الوحيدة في مصر كلها، رجع إلى «الغيط»، ليحرث فيه ويزرع؟!
ولا بد من أنهم عرفوا سبب ذلك. ومع أنهم مجتمع من الأميين، ويكثر فيهم الصبيان المتسكعون، لم يحدث له فيه ما ادعته رواية الشامتين به أنه حصل له في مدينة القاهرة.
إن رواية الشامتين به لاقت هوى في نفس كيلاني فتبناها؛ لأنه كان –يا للأسف- شامتاً به أيضاً. وللحديث بقية.