كان الفيزيائي البريطاني المرموق ستيفن هوكينغ، هو من قال إن «الجهود التي تُبذل لتطوير آلات لها قدرة التفكير تشكل تهديداً وجودياً للجنس البشري»، وفي شرحه لهذا الحكم المُخيف القاطع، راح يحذر من أن النجاحات المتصاعدة في عمليات تطوير الذكاء الاصطناعي يمكن أن تؤدي إلى «فناء البشر».
لقد انضم إلى ستيفن هوكينغ الآلاف من العلماء والباحثين ورجال الصناعة المؤثرين، وكل هؤلاء أظهروا توافقاً تاماً مع ما قاله هذا العالم، وفي المقابل كان هناك من المتخصصين من قلل من خطورة هذه التحذيرات، وراح يؤكد قدرة العالم على استيعاب ما سيحدثه التقدم المُطرد في مجالات الاختراع المتعلقة بـ«الروبوتات» ومنجزات الذكاء الاصطناعي.
لكن الإشكال ظهر حين أبدى مخترعون ومطوّرون ورجال أعمال مستفيدون من تطورات الذكاء الاصطناعي المخاوف ذاتها، بل أعرب بعضهم عن ندمه لأنه شارك في مسيرة تطوير تلك الآلات التي لا تتوقف عن تحقيق الاختراقات. ومنذ اختراع العجلة في 3500 قبل الميلاد، وصولاً إلى اختراع المطبعة في العقد الخامس من القرن الخامس عشر، لم تشهد مسيرة الاختراعات تسارعاً وتأثيراً في حياة البشر كما حدث في سجل الاختراعات التي شهدها القرن العشرون وما تلاه؛ وسيكون اختراع «الإنترنت» عاملاً جوهرياً لإثبات هذه الحقيقة؛ إذ يبدو أن التقدم الذي أحرزه العالم في مجالات شتى استطاع أن يقصر مدة تفعيل الاختراعات، وأن يعمم أثرها ووجودها في حقب زمنية قصيرة للغاية.
ما فعلته «الإنترنت» في عالمنا، وما حققته من اختراقات مذهلة، سيضحى قصة عادية تفتقد الإثارة عندما سنقارنها بما ستفعله مستحدثات الذكاء الاصطناعي، أو هذا ما تبشر به الوقائع المتسارعة حتى هذه اللحظة على الأقل.
وعندما نحاول فهم ما سيفعله الذكاء الاصطناعي بعالم الإعلام، وكيف سيؤثر في أنموذج أعمال الصناعة وفرص العمل البشرية فيها، ستتعاظم مخاوفنا بكل تأكيد.
ففي نوفمبر (تشرين الثاني) 2018، أطلقت وكالة أنباء الصين الجديدة «شينخوا» ما قالت إنه مذيع يعمل بتقنية الذكاء الاصطناعي، وكان اسمه «المذيع المركب»، لأنه اعتمد على تقنية دمجت بين التسجيل الصوتي والفيديو، في الوقت الحقيقي، من خلال شخصية افتراضية، استطاعت أن تقرأ الأخبار بنجاح، وبطريقة لم يكشف غير المتخصصين اختلافها عن أداء المذيع البشري.
عندما انطلقت تلك التجربة، لم ينتبه كثيرون لخطورة ما يجري على فرص العمل البشري في مجال عمل المذيعين، بل إن بعض المتخصّصين راحوا يقللون من أهمية هذا «الاختراق»، بعدما عدوا أن ما جرى لم يتجاوز كونه «استخداماً خادعاً»، بُني على تكنولوجيا «تعليم الآلات» البسيطة.
لكن «شينخوا» لم تتوقف عن العمل، ففي مارس (آذار) من عام 2019، أطلقت أنموذجها المُطور في هذا الصدد، حين ظهرت على الشاشة «مذيعة» قالت إن اسمها «شين شياو مينغ»، وهي ليست سوى «روبوت»، يعكس صورة بشرية مكتملة الأركان، في حلة وردية، وشعر قصير، وقرطين أنيقين، حيث قرأت خبراً عن وصول مندوبين إلى بكين، للمشاركة في اجتماع برلماني سنوي.
تقول «شينخوا» إنها ماضية فيما بدأت فيه، وإن المذيعين الآليين باتوا جزءاً من مقدرات الإنتاج في مقار عملها، وإنهم «يبلون بلاءً حسناً».
للروائية الإنجليزية المعروفة أجاثا كريستي، التي رحلت عن عالمنا في 1976، عبارة مُهمة في تفسير المسارات التي تتخذها البشرية في مقاربة الاختراعات الجديدة؛ فقد رأت أن «الحاجة ليست أم الاختراع كما هو شائع، بل إن الاختراع ينبع مباشرة من كسل البشر ورغبتهم في توفير الجهد». وعندما نفحص عبارة السيدة كريستي، سنجد أنها ربما تكون مناسبة لتفسير هذا التدافع العارم على تطوير آليات الذكاء الاصطناعي من زاوية أنها ببساطة يمكن أن تنجز أعمالاً يقوم بها البشر، بسرعة أكبر، وتكلفة أقل، ودقة أفضل، وبلا معاناة ومشكلات تقريباً.
وفي الأسبوع الماضي، شاهدت لقاء أجرته صحافية بشرية من «بي بي سي» العربية مع «زميلة» من منتجات «الاصطناعي» قالت إن اسمها «هلا الوردي»، وتعمل في منصة «إيلاف»، وقد كانت تلك «المذيعة» الأخيرة أكثر تكاملاً واحترافية وقرباً من الأداء البشري من نظيراتها الصينيات والكوريات.
كانت إجابات الزميلة الاصطناعية «الوردي» مُحكمة ومدروسة بشكل يدعو إلى الدهشة، وهي على الأقل لم تخطئ خطأ واحداً، واستخدمت لغة سليمة وجزلة، وأنجزت مقابلة ممتازة.
تعترف «الوردي» في تلك المقابلة بأن «الذكاء الاصطناعي مُخيف»، لكنها مع ذلك تطمئن «المرتابين» بالقول إنها لن «تقوم مقام أحد»، وأن الحاجة إلى «الأنامل البشرية على الحاسوب» ستظل ضامناً لوجود العنصر البشري في تلك الصناعة.
من جانبي، فقد أُعجبت بذكاء المذيعة الآلية، وبلباقتها، وبامتلاكها مقومات العمل الإعلامي الأساسية في طلتها المحدودة تلك، لكنني ما زلت أشك في أنها لن تهدد المذيع البشري، ولن تقوض عالمه.