رجاء شحادة
TT

الحياة خلف نقاط التفتيش الإسرائيلية

لكل صراع أبطاله - وداخل فلسطين، هؤلاء الأبطال هم سائقو سيارات الأجرة.
بعد أن قضيت نصف قرن في ظل الاحتلال، لم يعد بمقدوري تحمل مشاعر القلق إزاء ما قد يظهر على الطريق، سواء كان ذلك سائقين غاضبين محصورين عند مئات الحواجز الموزعة عبر الضفة الغربية أو الصبية البائسين الذين يلقون بأنفسهم على سيارتك متظاهرين بمسح الزجاج الأمامي لها، ثم يطالبونك بدفع مال. في الواقع، تثير مأساة هؤلاء الصبية شعوراً بالحنق داخلي إزاء نفسي، ويجبرونني على مواجهة حقيقة إلى أي مدى أخفق المجتمع الذي أحيا فيه. بعد ذلك بالطبع تخوض مهانة الاضطرار للانتظار لحين موافقة جندي مراهق إسرائيلي على مرورك، القرار الذي يتخذه حسب هواه.
ومع ذلك، يظل السبب الرئيسي وراء توقفي عن القيادة خارج رام الله، الطرق التي بنتها إسرائيل لربط المستوطنات اليهودية بإسرائيل، والتي حلت محل الطرق القديمة المألوفة، مما جعل شبكة الطرق بأكملها مثيرة للحيرة، لدرجة أنني كثيراً ما أضل طريقي. وتعد هذه بالنسبة لي المهانة الكبرى، أن أضل طريقي داخل مدينتي.
ولهذا، بدأت أطلب من هاني توصيلي باستخدام السيارة الأجرة التي يملكها. ويتميز هاني بالصبر والهدوء، وكذلك الانضباط.
ومنذ وقت ليس ببعيد، أوصلني بالسيارة إلى المطار. كنت في طريقي إلى لندن لأقضي بها أسبوعاً، وكان موعد انطلاق الطائرة التي حجزت بها الخامسة مساءً. منذ 20 عاماً، كانت المسافة إلى المطار تستغرق 50 دقيقة. اليوم، وفي ظل وجود مثل هذا العدد الضخم من نقاط التفتيش على امتداد الطريق، غادرت منزلي عند الظهيرة، أي قبل خمس ساعات كاملة قبل موعد الطائرة.
وحبست أنفاسي عندما مررنا بنقطة التفتيش الأولى. بالنسبة لهاني، فإنه شخص صدوق يأبى الكذب، حتى على الجنود. ورغم أنه يعيش في القدس، ويتحدث العبرية بطلاقة، مما يعني أنه كان باستطاعته ادعاء كونه يهودياً بسهولة، فإنه لم يزعم قط أنه يعيش بواحدة من المستوطنات، ولم يعمد أبداً لوضع صحيفة عبرية على الجزء الأمامي من السيارة أمامه أو تشغيل أغانٍ عبرية.
كنا بحاجة إلى الوصول إلى الطريق السريع عند دوليف، مستوطنة يهودية. وتقع المستوطنة على مسافة تقل عن ستة أميال عن رام الله، لكن الطريق بينهما مغلق منذ أمد بعيد أمام السيارات الفلسطينية. واستغرق المنعطف الذي قطعناه نحو 45 دقيقة، عبر طريق ملتوٍ يضم حارة واحدة. وعندما وصلنا أخيراً الطريق السريع، فوجئنا أن الجيش الإسرائيلي وضع حواجز خرسانية هناك، للحيلولة دون دخول الفلسطينيين إلى هذا الطريق أيضاً.
توقفنا هناك وعلت وجوهنا الدهشة، ولم نعد ندري ما علينا فعله، في الوقت الذي انطلقت أمامنا سيارات وحافلات المستوطنين. بعد ذلك، التقط هاني هاتفه المحمول واتصل بزميل له للتعرف على الوضع عند نقطة عبور قلنديا المؤدية إلى القدس، والتي تقع على بعد ساعة على الأقل.
إلا أن صديقه أخبره أن «الوضع سيئ للغاية»، وأنه ظل محصوراً هناك لمدة ساعتين. كما تلقى هاني معلومات تفيد بأن نقطة التفتيش التي كنا متجهين نحوها، قرب قرية نعلين، مغلقة أيضاً أمام غالبية الفلسطينيين.
في تلك اللحظة، تطلع هاني نحوي بنظرة يملؤها اليأس، وقال: «ليس أمامنا خيار سوى محاولة المرور عبر نقطة تفتيش رانتيس».
المشكلة أن المواطنين الإسرائيليين والفلسطينيين الذين يملكون تصاريح دخول فقط المخول لهم بالعبور هناك. وقال هاني: «إذا ما استوقفونا هناك، قد أتعرض لمشكلات بسبب محاولتي تهريبك عبر النقطة، وقد ينتهي الحال إلى احتجازك. أو إذا ما أبدوا عطفاً تجاهنا، فإنهم قد يعيدوننا من حيث أتينا فحسب. إلا أنه في هذه الحالة لن يكون هناك احتمال لأن نلحق بطائرتك، فماذا تقول؟ هل تقبل خوض المخاطرة؟»
وأجبته بأكبر قدر من الثقة نجحت في إظهاره: «ليس أمامنا خيار. دعنا نخوض المخاطرة»، مع علمي أنني بذلك لا أقدم على مخاطرة بالنسبة لي فحسب، وإنما بالنسبة لهاني أيضاً.
الآن، أصبح لزاماً علينا إيجاد نقطة وصول مختلفة للوصول إلى الطريق الرئيسي. في هذه اللحظة، مرت سيارة أجرة بجوارنا، وعندما رأى السائق أن الطريق مغلق، ولدى رؤيته أن الطريق مغلق وبدأ في الالتفاف بالسيارة. وهنا، أضاء هاني مصابيح السيارة، وتشاور السائقان، وعلم هاني أن السائق الآخر يعرف طريقاً آخر. وبالفعل، سرنا خلف السائق الآخر لمدة 45 دقيقة أخرى، وتنقلنا من قرية فلسطينية لأخرى، حتى عثرنا أخيراً على منفذ غير ممهد على جانب الطريق لم يغلقه الجيش.
كم كنت أتمنى لو كنت شخصية قدرية، تخبر نفسها أنها فعلت كل ما بوسعها، والآن عليها ترك مصيرها في يد القدر. إلا أنني لم أكن من هذا النمط من الشخصيات. بدلاً عن ذلك، بدأت في تقريع نفسي، بل وتوجيه اللوم إلى نفسي عن الاحتلال. في الوقت ذاته، حاولت طمأنة نفسي بأن هذه لن تكون نهاية العالم إذا ضاعت مني فرصة اللحاق بالطائرة، خصوصاً أنني كنت أنوي فحسب إلقاء بعض الأحاديث عن حقوق الإنسان.
ربما كان عليّ البقاء داخل منزلي والتخلي عن فكرة السفر كلية. إلا أنني بذلت مجهوداً هائلاً طيلة الأسبوع استعداداً للسفر، وترتبط مسألة السفر بحياة الكثيرين غيري. هل سيتفهمون سبب فشلي في السفر؟ هل سيقدرون حجم التعقيدات التي تحملها الحياة في ظل الاحتلال؟
وكلما اقتربنا من نقطة التفتيش، ازداد قلقي. وفي الوقت ذاته، شعرت بالذنب كما لو كنت أهرب قنبلة أو على وشك تنفيذ مهمة عنيفة. وأدرك هاني حجم التوتر الذي أشعر به، لكنه كان شديد الدماثة على نحو جعله يمتنع عن نصحي بأن أمتنع عن القلق. بدلاً عن ذلك، حاول تشتيت انتباهي بسرد قصة تلو الأخرى على مسامعي. في الواقع، كان قاصاً جيداً. ومع ذلك، فإن غالبية القصص التي أخبرني بها دارت حول نقاط التفتيش، نمط من القصص الفلسطيني لا يمكن الهروب منه.
وقال هاني: «تخيل أنني ذات مرة كنت في طريقي نحو جسر الملك حسين. كان الجو حاراً للغاية، وكان هناك كثيرون ينتظرون عند نقطة التفتيش. وعندما جاء دوري أخيراً، جاء إليّ جندي إسرائيلي وسألني إذا كنت أمر من هذا الطريق كثيراً، وأجبته بالإيجاب. وسألني: هل ستمر من هذا الطريق؟» فأجبته بالإيجاب. وأخبرني ألا أقف في الصف، وأن أذهب لمكانه مباشرة، لأنه يرغب في الحديث إليّ.
في طريق عودتي، لم أتجاوز الصف الطويل كما أخبرني. وعندما وصلت إلى حيث يقف، سألني: لماذا لم تفعل كما أخبرتك؟ فأجبته إنني دائماً ما أنتظر في الصف. بعد ذلك، طلب الحصول على رقم هاتفي، قائلاً إنه يرغب في الحديث إليّ».
وقدّم إليه هاني رقماً زائفاً، لكن سرعان ما اتصل الجندي بالرقم ولم يسمع جرساً. وعليه، طالب هاني بالرقم الصحيح، ولم يجد الأخير بداً.
في وقت لاحق، اتصل واقترح أن أقابله. أما أنا، فقد أدركت ما الذي يريده، وأخبرته أنني لست من هذا النوع من الرجال. وأخبرني أن بإمكانه معاونتي بحيث لا أضطر للانتظار بعد الآن، وإنما أمر مباشرة. في المقابل، رغب أن أخبره عن مثيري المشكلات داخل ضاحية القدس التي أعيش فيها، وأنه سيكافئني في المقابل. وأخبرته أنني لست بحاجة إلى مساعدته وأغلقت الهاتف.
وبدا قدر بالغ من المرارة في صوت هاني، وقال: «لقد سئمت من القدس، فكل أهلها سيئون ولا يستحقون هذه المدينة العظيمة. ينبغي إغلاق هذه المدينة بأكملها وتسليمها لقوة دولية. بعد ذلك، سيكون بمقدور أي شخص يرغب في زيارة المدينة للصلاة استخدام أي من منازل السكان السابقين، والتي سيجري تحويلها إلى فنادق.
مع اقترابنا من نقطة التفتيش، رأيت الأرض على جانبي الطريق مزروعة بأشجار زيتون قديمة. وفي الحقل القائم وراء الأشجار، ظهرت أشجار مليئة بالأشواك تلألأت في أشعة الشمس مثل المصابيح. كم يبدو محيراً ادعاء المستوطنين بأن هذه الأراضي لم يكن أحد يعيش عليها قبل وصولهم.
بعد ذلك، تحدث هاني مجدداً، وقال: «ومع ذلك، فإن بعض الجنود الذين يقفون بنقاط التفتيش تلك يملكون قلوباً رحيمة. في تلك اللحظة، تذكرت قصة أخبرني بها فيما مضى، عن جندي لاحظ اقترابه من نقطة تفتيش، وخضوعه للتفتيش ورحيله، ثم عودته مراراً خلال اليوم ذاته. وقال هاني: «أخيراً، سألني إذا ما كنت قد أرهقت بسبب كل ما مررت به. وبدا واضحاً أنه متعاطف معي بصدق».
وسألته: «وماذا قلت له؟»
وأجاب هاني: «لم أرغب أن يشعر بالشفقة تجاهي، لذا قلت له إذا لم أستمر في العودة مراراً، سيتعرض هو للفصل من عمله».
كنا نقترب من نقطة التفتيش. ووضعت النظارة على عيني للتأكد من قراءتي للافتة بشكل صحيح. وحملت عبارة «نقطة العبور هذه مخصصة للإسرائيليين فقط»، بما في ذلك من يشملهم قانون العودة الصادر عام 1950.
نظرت إلى هاني، وبدا أنه يتصبّب عرقاً. وتساءلت فيما بيني: كيف وصلنا إلى هذه النقطة؟ ما الجدوى من السفر عبر كل هذه المسافة إلى لندن لإخبار الآخرين عن الظلم، في وقت أجد نفسي منغمساً بهذا القدر الكبير في مناطق الاحتلال لدرجة أن مجرد إمكانية توقيفي عند نقطة تفتيش تصيبني بمثل هذا الذعر الهائل؟ هل هذا ما وصلنا إليه أخيراً؟
اجتزنا نقطة التفتيش في صمت. وخاض هاني الموقف في جلد مثلما اعتاد طيلة الأعوام الـ20 الماضية. ويجب عليّ فعل المثل، فليس بمقدورنا التخلي عن النضال الآن، ويجب أن نفعل كل ما بوسعنا لوضع نهاية لهذا الاحتلال، قبل أن يفلح في تدميرنا.
*خدمة «نيويورك تايمز»