عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

تحديات التعايش في العالم العربي

على الرغم من أن زيارة بابا الفاتيكان فرنسيس لمصر قبل أيام كانت مقررة منذ فترة، فإنها اكتسبت اهتماماً أكبر لأنها جاءت بعد الاعتداءين الإرهابيين على الكنيستين في الإسكندرية وطنطا، والحديث المتكرر عن هجمات وتحذيرات تستهدف المسيحيين. لذلك؛ لم يكن غريباً أن يركز بابا الفاتيكان وشيخ الأزهر أحمد الطيب في كلمتيهما أمام «مؤتمر الأزهر العالمي للسلام» على إدانة العنف الذي يرتكب باسم الأديان في أي مكان كان، وعلى أهمية ترسيخ قيم السلام والتراحم بين الشعوب، ونشر التسامح والانفتاح والتعايش واحترام الآخر.
فالواضح أن تنظيم ما يسمى «الدولة الإسلامية» المزعومة في تصعيده لعملياته في سيناء بعد نكساته في العراق وسوريا وليبيا، يحاول توظيف التكتيكات والمخططات التي اتبعها في العراق، وطبّقها قبل ذلك أيضاً تنظيم القاعدة، والمتمثلة في إثارة حرب طائفية لضرب النسيج الاجتماعي، وهز الاستقرار، ونشر أجواء الخوف وعدم الاستقرار التي تتغذى منها حركات التطرف والإرهاب. لذلك؛ نشر التنظيم شريط فيديو في فبراير (شباط) الماضي يتوعد فيه المسيحيين، مكرراً بذلك التهديدات التي كان قد أطلقها قبل عامين عندما كان يعمل باسم حركة أنصار بيت المقدس، وتلك التي أطلقها زعيم «داعش» أبو بكر البغدادي عندما كان التنظيم في أوج قوته واعتبرها «الإنذار الأخير» للمسيحيين، ذاكراً مصر بالاسم.
أما لماذا مصر؟ فلأن فيها أكبر طائفة مسيحية في العالم العربي، ولأنها تبقى أيضاً هدفاً يرنو إليه التنظيم، ويحلم بأن يجد فيه موطئ قدم. ما يتعرض له أقباط مصر واستهداف من قبل هذا التنظيم، يمثل مشكلة خطيرة، ويعكس في الواقع أزمة أوسع تشمل المسيحيين في دول أخرى، بل والأقليات بشكل أعم.
الإحصائيات مخيفة، ويجب أن تزعج كل حادب على مفاهيم التعايش والتسامح والانفتاح. ففي العراق مثلاً كان المسيحيون يقدّرون بنحو مليون وأربعمائة ألف مواطن في عام 1987، لكن بحلول عام 2013 انخفض عددهم إلى نحو 400 ألف، بينما ذكرت تقارير العام الماضي أنه لم يتبق منهم سوى 250 ألفا بسبب الحروب والاستهداف من القاعدة ثم «داعش»، ومن جماعات أخرى. وهناك من يحذر اليوم بأن عدداً من البلدات والقرى المسيحية أصبحت شبه مهجورة ومهددة بالانقراض تماماً؛ لأن سكانها إما هاجروا إلى الخارج، ويخشى من تبقى منهم ممن نزحوا في الداخل العودة إليها حتى بعد أن تحررت من قبضة «داعش»، بينما يعزو آخرون السبب إلى حجم الدمار وغياب جهود التعمير وفرض الأمن.
في سوريا التي لم يتعرض مسيحيوها إلى ما تعرض له العراقيون؛ لأن غالبيتهم تعيش في مناطق تحت سيطرة قوات النظام، فإن أعدادهم تقلصت أيضاً. ووفقاً لما أعلنه أسقف حلب في مؤتمر صحافي بمقر الأمم المتحدة في جنيف العام الماضي، فإن ثلثي المسيحيين السوريين غادروا البلاد، وتقلص عددهم من مليون ونصف المليون مواطن إلى نحو نصف المليون خلال سنوات الحرب.
قد يكون هناك من يريد تهجير المسيحيين من المنطقة واعتبار ذلك جزءاً من مشكلة الفشل في تعايش الأقليات في العالم العربي الذي كان مهد كل الديانات السماوية. وقد يكون التهديد الإرهابي جزءاً من أدوات هذا التهجير. لكننا يجب أن نعترف أيضاً بأن مشكلات المسيحيين في عالمنا العربي أكبر وأعمق وأقدم من هجمات «داعش» والقاعدة وغيرها من تنظيمات التطرف والإرهاب. ذلك أن المسيحيين، على الرغم من أنهم جزء أصيل من تاريخ المنطقة وإرثها بصفتها مهداً للديانات السماوية، فإنهم يواجهون التمييز اجتماعياً، ومن الإحساس بأنهم يعيشون منقوصي الحقوق بصفتهم مواطنين.
في العراق يشكو مسيحيون ممن تمسكوا بالبقاء في بلدهم على الرغم من اضطرارهم إلى النزوح إلى مناطق أخرى خوفاً من «داعش» أو من المتطرفين الآخرين، من أنهم واجهوا التمييز والتفرقة حتى في معسكرات النازحين. وفي مصر يقول مسيحيون إنهم يتعرضون للتمييز، بينما يتعرض آخرون لاعتداءات، خصوصاً في بعض المناطق التي تعاني من الشحن الطائفي. أما في سوريا فهناك مسيحيون يقولون إنهم يعيشون في خوف ليس من «داعش» وأخواته من الإرهابيين فحسب، بل من التنظيمات الأخرى؛ وذلك بسبب موالاتهم للنظام التي تعرضهم للاستهداف. تبرير الاستهداف بسبب الموالاة هذا قد تجده في دول أخرى أيضا؛ لأن المسيحيين وغيرهم من الأقليات ربما يشعرون بأنهم في حاجة إلى الحماية، علما بأنه في حركات المعارضة سواء في سوريا اليوم، أو في العراق ومصر، تجد أيضاً شخصيات بارزة من الأقليات.
أزمة المسيحيين تمثل تحدياً للمنطقة، وتحتاج إلى معالجة أعمق لا تضعها فقط في إطار قضية الإرهاب الراهنة. وعندما نتحدث عن نشر ثقافة الحوار والتعايش والتسامح وقبول الآخر فيجب ألا يكون ذلك في إطار خطاب محاربة الإرهاب والتطرف فحسب، بل أيضاً لاجتثاث الثقافة العنصرية التي تبرر التمييز ضد الأقليات.