تشارلز كيسلر
TT

دونالد ترمب جمهوري حقيقي

أي نوع من المحافظين هو الرئيس دونالد ترمب؟ فلا بد أن يكون نوعا من الرجال المحافظين؛ لأنه خلال المائة يوم الأولى من رئاسته ولا يزال، صب عليه الليبراليون جام سخطهم وغضبهم من النوع الذي لا يحفظونه عن المعتدلين أو أصحاب الآيديولوجيات الخاوية. وفي خضم العاصمة واشنطن، انضم بعض أشهر المحافظين إلى هذه اللعبة، لكن لأغراض مختلفة تماماً؛ إذ يقولون: إن ترمب، كما يزعمون، ليس محافظا على الإطلاق، ولكنه شعبوياً ديماغوجياً انطلق لتقويض حركتهم المحبوبة وتدميرها.
من خلال خطاباته العامة الثلاثة حتى الآن - كلمته أمام المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري، وخطاب التنصيب الرئاسي، وكلمته أمام الجلسة المشتركة لأعضاء الكونغرس - لم يعطف ترمب على ذكر المحافظين أو آيديولوجيتهم على الإطلاق. وحتى في مؤتمر العمل السياسي المحافظ، زعم ترمب بكل بساطة، وبكلمات عابرة تقريباً، أن انتخابه رئيساً للبلاد يعد انتصاراً كبيراً للقيم المحافظة. لكنه لم يحدد ما الذي يعنيه بقوله القيم المحافظة، باستثناء الإشارة إلى اعتقاد الشعب الأميركي في الحرية، والأمن، وسيادة القانون، والدفاع عن الولايات المتحدة، والعمال الأميركيين، والعلم الأميركي.
وهذه الصيغ الكلامية واسعة وفضفاضة بصورة تسمح، بل وتشجع كلا الجانبين في البيت الأبيض الذين يتصارعون بين ستيفن بانون، كبير المخططين الاستراتيجيين، وبين جاريد كوشنر، صهر الرئيس. وبدلاً من الاهتمام بجولات الاقتتال الداخلي، يجدر بنا التركيز على الأجندة السياسية العامة لدى الرئيس ومحاولة وضعها في منظور تاريخي أطول وأكثر وضوحاً. ومن المؤكد، أنه لم يكن هناك رئيس أكثر دقة من ترمب، لكن مواقفه حتى الآن لا تثير الاستياء، كما أنها ليست مشينة أو فظيعة كما يحلو للبعض تصويرها في كثير من الأحيان.
لا يزال ترمب هو ذلك الرئيس المحافظ الذي يتوقع المرء منه أن يقول، بكل فخر وفي كثير من الأحيان: «إن العمل الرئيسي للشعب الأميركي هو الأعمال التجارية». وعلى الرغم من أن الرئيس الراحل جون كالفين كوليدج قد قالها من قبله، إلا أن ترمب يبعث بإشارات متزايدة إلى التفكير على نفس منوال الرئيس الراحل كوليدج، ومحاولة إعادة توجيه دفة السياسات الجمهورية نحو حزب ما قبل الصفقة الجديدة، وما قبل الحرب الباردة للرئيسين ويليام ماكينلي وكالفين كوليدج، مع جذوره التي تعود إلى أيام الرئيس الراحل أبراهام لينكولن.
لم يكن ترمب، ولن يكون، من أنصار حركة المحافظين. وبصرف النظر عن افتتان الشباب (وهل هناك شيء آخر؟) بشخصية آين راند، فلقد أعرب عن القليل من الصبر نحو الحركة التحررية، والحركة التقليدية، وحركة المحافظين الجدد، أو غير ذلك من الكينونات الآيديولوجية الأخرى المهددة بالانقراض التي سعت الحركة إلى المحافظة عليها عبر الكثير من العقود المنقضية. ولقد قال ترمب إلى جورج ستيفانوبولوس على شبكة «إيه بي سي نيوز» خلال الحملة الانتخابية «لا تنس أن هذا يسمى الحزب الجمهوري. وليس الحزب المحافظ».
ولقد أثار عبر هذه الملاحظة، وبكل وضوح، احتمال خضوع الحركة المحافظة لمعايير الجمهورية، أو ضرورة تعريفها، على أدنى تقدير، بالاقتران مع المبادئ والتاريخ الجمهوري في الولايات المتحدة، بدلاً من العكس ـ بمعنى، بدلاً من اعتبار الحركة المحافظة اليوم معياراً لقياس توجهات وسياسات الحزب الجمهوري. وتشير سياسات ترمب إلى أنه ما يطلق عليه «الحس السليم المحافظ» ينسب إلى المبادئ وإلى الأجندة الخاصة بأعمال الحزب الجمهوري القديم، التي بلغت ذروتها قبل الصفقة الجديدة.
في تلك الأيام، ساند الحزب التعريفات الحمائية، والهجرات المرتبطة بالاستيعاب (أو ما وصفه الرئيس الراحل تيودور روزفلت بالأمركة)، والقضاة الذين هم على استعداد لإسقاط قوانين الولايات، وربما القوانين الفيدرالية التي تتعدى على القيود الدستورية، والتخفيضات الضريبية، والتحسينات الداخلية (الإنفاق على البنية التحتية بمصطلحات اليوم)، والسياسة الخارجية الثابتة والمخصصة في الوقت نفسه للدفاع عن المصالح القومية الأميركية. أليست هذه هي العناصر الرئيسية لسياسات إدارة الرئيس ترمب؟
لا يمكن القول إن ترمب انطلق بكل وعي وضمير لإعادة الحزب الجمهوري إلى جذوره الأصلية. فإنه، من خلال ردود فعله وأسلوبه، يميل كثيرا نحو الرئيس الراحل أندرو جاكسون، الذي له صورة شخصية معلقة الآن على أحد جدران المكتب البيضاوي. ولقد قال ترمب بعد زيارته منزل الرئيس الراحل أندرو جاكسون، الارميتاج، بالقرب من ناشفيل في شهر مارس (آذار): «إنني من أشد المعجبين به». ومن المرجح بصورة كبيرة أن تسفر قراءته المستقلة لموقفنا عن الخروج باستنتاجات مماثلة، وعن أساليب مماثلة في التفكير. ولقد اقتبس ترمب مقولة مشهورة عن الرئيس الراحل لينكولن ذكرها في عام 1847 بأن «التخلي عن سياسات الحماية سيؤدي إلى إنتاج الخوف والدمار بين جموع الشعب». ولقد كان الرئيس لينكولن من الحمائيين الكبار قبل أن يصبح من كبار المحررين.
وكان بإمكان ترمب الاقتباس عن الرئيس الراحل ماكينلي في عام 1896؛ إذ قال: «الحماية هي حصن الاستقلال الصناعي للولايات المتحدة، وأساس التنمية والازدهار للشعب الأميركي»، أو الاقتباس عن الرئيس الراحل كوليدج في عام 1924، ولقد أشاد ترمب بالرئيس الراحل دوايت أيزنهاور، ليس بسبب إنهاء الحرب الكورية، لكن لأجل بناء آخر برامج البنية التحتية الوطنية العظيمة، ألا وهو نظام الطرق السريعة ما بين الولايات.
امتد الحزب الجمهوري القديم منذ أيام الرئيس لينكولن وحتى هربرت هوفر، واستمر تأثيره على الرئيس أيزنهاور، ثم إلى ريتشارد نيكسون من بعده. ولقد هيمن الحزب الجمهوري على السياسات الوطنية إلى درجة أن الحزب الجمهوري المحافظ الحديث، الذي تشكلت شخصيته الجديدة إبان الحرب الباردة، يمكنه الحلم فقط بين انتخاب لينكولن في عام 1860 وخسارة هوفر أمام فرانكلين روزفلت في عام 1932؛ فلقد انتخب الحزب كل رئيس للولايات المتحدة باستثناء (غروفر كليفلاند ووودرو ويلسون) وسيطر على مجلسي النواب والشيوخ لفترة تقترب من 46 سنة من أصل 72 سنة. وتزامنت هذه الأيام السعيدة مع الاعتماد الثابت والمحدد لسياسات تماثل التي يعتمدها ترمب الآن. والتي ساعدت، بكل تأكيد، على قضاء الحزب الديمقراطي لهذه السنوات في دعمهم المخجل للرق والعبودية والانفصال وجيم كرو.
ورغم ذلك، لا يمكن لترمب بكل بساطة تجاهل الحركة المحافظة الجديدة. ولسبب وحيد، أن النجاحات الكبيرة والعظيمة التي حققتها، من الانتصار في الحرب الباردة وإعادة تفعيل النمو الاقتصادي (من خلال التخفيضات الضريبية للرئيس الراحل رونالد ريغان، وسياسات الإنفاق والإصلاحات التنظيمية)، قد مهدت الطريق لرؤاه الخاصة للسياسة الخارجية لما بعد الحرب الباردة، وإعادة انبعاث الاقتصاد الأميركي القوي. وبعد هذه النجاحات، رغم كل شيء، ميزت الحركة المحافظة الجديدة تلك الفترة الزمنية وحلمت بالحد من صلاحيات الحكومة. ولكنها اعتمدت خيالات خاطئة حول كيفية بناء الأغلبية المحافظة بين جموع الناخبين، ولكن لا شيء أكثر من ذلك.
ولقد تقدم ترمب بوسيلة للخروج من حالة الجمود هذه، نحو النجاح الانتخابي وتجديد الخطاب الآيديولوجي الذي يبدأ من العودة إلى السياسات الجمهورية السابقة التي تضع أميركا في المقدمة على مجالات التجارة والهجرة والبنية التحتية، وغير ذلك الكثير، والتي تعتبر ذات جاذبية خاصة لملايين العمال وأبناء الطبقة الوسطى من الشعب الأميركي.
كما أن هناك جناحاً تقدمياً أو ليبرالياً كبيراً في الحزب الجمهوري القديم. وكما يعكس افتتانه الشخصي بالرئيس الراحل جاكسون، فإن ترمب يعتبر أكثر شعبوية من كونه تقدمياً، ولكن على أي حال فإنه سيقاتل كثيراً حول تعريف الحزب الجمهوري للنزعة المحافظة، ومحاولاً تمديد النزعة الأرثوذكسية، أو حفنة من هذه النزعات، بغية استيعاب الأغلبية الحاكمة. وعلى الرغم من ذلك، سيكون لديه مجال للتواصل مع اليسار، أو مع الوسط، وربما يثير نموذج تيودور روزفلت القديم، من دون الحاجة إلى تتبع خطى الرئيس روزفلت في شؤون حزبه التقدمي القديم.
والولايات المتحدة اليوم هي دولة مختلفة تماماً عما كانت عليه في عشرينات القرن الماضي أو أواخر القرن التاسع عشر، عندما حكم الجمهوريون. ولذلك؛ يتعين على سياسات إدارة الرئيس ترمب أن تكون مزيجاً مما هو قديم وجديد. ومن المبكر للغاية القول ما إذا كان ذلك المزيج سيتطور إلى مبادئ وعقيدة لدى الرئيس ترمب. فالقليل للغاية من سياسات ومبادئ وشخصيات الرؤساء هي التي كانت مميزة لدرجة تحولها إلى عقيدة تحمل اسمه.
والحركة التي دفعت به إلى السلطة هي، وفق اعتراف ترمب نفسه، كانت عفوية بشكل خاص ولا يمكن تحديد هويتها الحقيقية أو مسماها الأكيد وبكل غرابة. ولا يمكن لهذه الحركة شغر الآلاف من المناصب في فروع السلطة التنفيذية الخاضعة لتصرف الرئيس، ولهذا السبب؛ فإنه في حاجة ماسة إلى الاعتماد بشكل كبير على الحركة المحافظة بمعناها الواسع، وعلى الحزب الجمهوري كذلك.
ومن المرجح، أن تضطر إدارة الرئيس ترمب إلى المناورة بين السلالات القديمة والحالية من الحركة المحافظة، وبين الحساسات الشعبوية والمؤسساتية القائمة. وبالنسبة إلى السياسة الخارجية؛ فلقد أظهر الرئيس ترمب أنه قد تجاوز وبكل سهولة الحزب الجمهوري القديم. وعلى الرغم من أنه سينقل السياسة التجارية نحو المزيد من الحمائية، فسيقتصر أداؤه كثيراً عن المعايير التي أرساها الرئيس الأسبق ماكينلي.
قد تكون النزعة الشعبوية لدى الرئيس ترمب متقلبة ومتلونة، لكن ينبغي النظر إليها من زاوية محاولة تقريب الحركة المحافظة والحزب الجمهوري من صورتهما القديمة.
* خدمة «نيويورك تايمز»