طارق الشناوي
ناقد سينمائي، وكاتب صحافي، وأستاذ مادة النقد بكلية الإعلام في جامعة القاهرة. أصدر نحو 30 كتاباً في السينما والغناء، ورأس وشارك في لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية الدولية. حصل على العديد من التكريمات، وقدم أكثر من برنامج في الفضائيات.
TT

«الأطلال»... ومن هي الملهمة؟

مرت قبل أيام ذكرى الشاعر إبراهيم ناجي، الذي عاش ومات في الظل، فلم يعرف الشهرة العريضة، إلا بعد 13 عاماً من رحيله وتحديداً عام 1966، عندما غنت له أم كلثوم وبتلحين رياض السنباطي «الأطلال». صار ناجي بعدها يحمل لقب «شاعر الأطلال»، مثلما حمل اللبناني الراحل جورج غرداق لقب «شاعر هذه ليلتي»، والسوداني الراحل الهادي آدم لقب «شاعر أغداً ألقاك».
التقيت جورج غرداق قبل خمسة أعوام في بيروت، فهو آخر شاعر عاصر أم كلثوم، ولم يكن سعيداً بأن يختصر إنجازه في قصيدة واحدة، وهي أيضاً نفس أحاسيس الهادي آدم الذي صرح كثيراً بأنه يضج عندما يوجد في حفل ويلح عليه الحضور لإلقاء «أغداً ألقاك».
شهرة لوحة أو قصيدة من المؤكد تحقق نوعاً من الاهتمام الزائد بها، وتنال قدراً كبيراً من الحفاوة، على حساب الأعمال الأخرى، وهكذا «الأطلال» والتي حملت في أكثر من استفتاء لقب «قصيدة القرن»، فلم تعلها في الذيوع قصيدة أخرى، ولا تزال جمعية المؤلفين والملحنين والتي ترصد حركة انتشار الأغاني في العالم، تعتبر الأطلال هي التي تحقق الرقم الأعلى في معدل التداول، ويكفي أن نذكر أن رياض السنباطي من فرط اعتزازه بها، اقترح على أم كلثوم، أن يعلنا للجمهور معاً الاعتزال، رفضت أم كلثوم الفكرة، وظلت حتى رحيلها وهي تغني وأيضاً السنباطي لم يتوقف عن التلحين حتى بعد رحيل أم كلثوم.
فتحت ذكرى شاعر الأطلال الطبيب الشاعر، الذي كانوا عندما يريدون توجيه اتهام إليه يصفونه بأنه «شاعر بين الأطباء وطبيب بين الشعراء»، كما ناله نقد لاذع من عميد الأدب العربي طه حسين الذي اعتبر ديوانه الأول مجرد شعر صالونات ما إن يخرج للشارع حتى ينزوي ويصاب بنزلة برد.
الأطلال هي أكثر قصيدة تعرضت لسيل من الملهمات، أكثر من فنانة بعد تلك الشهرة التي حققتها ادعت أن ناجي كتبها عنها، ومع غياب الرجل عن الحياة، صارت الساحة مفتوحة لكل الحكايات، وهكذا وجدنا أن الممثلتين الراحلتين، زوزو حمدي الحكيم، وزوزو ماضي أكدت كل منهما أنه كتبها عنها، والحقيقة أن ناجي بالفعل سبق وأن كتب قصائد عن أكثر من فنانة مثل أمينة رزق، كما أن أحمد شوقي مثلاً كتب عن أم كلثوم قصيدة «سلو كؤوس الطلا هل لا مست فاها» وعباس العقاد كتب أيضاً عن ملهمته الفنانة مديحة يسري، مد الله في عمرها، أكثر من قصيدة، وإن كان العقاد لم يبح في حياته مباشرة بذلك، إلا أن تلميذه الفنان التشكيلي صلاح طاهر أكد الواقعة، وهو أيضاً ما ذكره أنيس منصور في أكثر من مقال.
يبقى الحديث عن الإلهام، هل كل القصيدة أم ربما المطلع أو بيت؟ قالوا مثلاً إن قصيدة «لا تكذبي» كتبها كامل الشناوي عن علاقته بالمطربة نجاة، وتبارى أكثر من كاتب في سرد قصة مختلقة، حتى في حياة كامل الشناوي، إلا أن الرد العملي جاء من نجاة عندما غنت بصوتها «لا تكذبي» لتؤكد كذب تلك الحكايات، فلا يمكن لإنسان أن يغني لخيانته.
كثيراً ما يثير النجاح والشهرة لعمل الفني النهم لكي يبحث الناس عن ظلال ولو خادعة للحقيقة، وأتصور أن ناجي كتب قصيدته عن أكثر من ملهمة والكثير من الموقف، وهكذا عاشت الأطلال لأن بها الصدق الفني الذي لا يعني بالضرورة أنه يحمل ظلاً مباشراً للحقيقة ولكنه المعادل الفني لها والفارق كبير.