وليد أبي مرشد
صحافيّ وكاتب وخبير اقتصادي لبنانيّ
TT

موازنة «ترضية»

ربما ارتكب لبنان الرسمي خطأ شكلياً بربطه مطلباً معيشياً مستحقاً، أي تعديل سلسلة رتب موظفي القطاع العام ورواتبهم، بمشروع «مسلوق» لزيادة الضرائب؛ فعرّض إقرار السلسلة للتعثر، وأرقام الضرائب للطعن.
من الطبيعي في دولة تشكو من أعباء خدمة دينها العام وشح مواردها المالية، وارتفاع معدل البطالة، واستشراء الفساد والهدر في الكثير من دوائرها، أن يعتبر مواطنوها أي ضرائب جديدة مجحفة بحقهم، خصوصاً أنها لم تترافق بتقديمات اجتماعية تخفف من وطأة تكاليف خدمات القطاعات الحيوية، كالتطبيب والتعليم والسكن...
ردة فعل الشارع العفوية استنكاراً «لفكرة» زيادة الضرائب لم تعكس عمق الأزمة المعيشية في لبنان فحسب، بل أيضاً غياب الرؤية «الاجتماعية» لمهندسي السياسة الضريبية بعد أن عاش لبنان الرسمي 12 عاماً بلا قطع حساب ولا موازنة عامة.
من تحصيل الحاصل أن اللبنانيين، المرهقين بأعبائهم المعيشية، ما زالوا يسددون ضريبة ضخمة، ضريبة حربهم الأهلية التي دامت خمس عشرة سنة، وخلّفت تداعيات كارثية على البشر والحجر معاً. (وقد يكون لافتاً في هذا السياق أن لوردات الحرب، أو ممثليهم، كانوا الأكثر جهراً بمعارضتهم الضرائب الجديدة).
أن يكون لبنان في حاجة إلى «تعويم» مالي لوضعه الاقتصادي الراهن... أمر لا يختلف لبنانيان عليه. وإذا كانت الحكومات التي توالت على سراي بيروت خلال سنوات ما بعد الحرب الأهلية لم تعط عملية إعادة إنماء لبنان الأولوية المطلوبة «لضيق ذات اليد»، فإن ظروف لبنان في عهد حكومة الرئيس سعد الحريري لا تسمح لها بأن تجود بأكثر من الموجود... في جيوب اللبنانيين شبه الخاوية.
ولكن في مطلع عهد جديد يؤكد، ويكرر، أن الإصلاح الإداري والقضاء على الفساد ووقف الهدر همّه الأول وهدفه المعلن، كان من المفترض أن يُستبق قرار زيادة الضرائب بإنجاز إصلاحي واحد على الأقل يثبت رغبة العهد في القضاء على الفساد - ولا نقول قدرته – ويمهد نفسياً لزيادة الضرائب بإظهار عزمه، بل حزمه، على وقف الهدر قي دوائر الدولة. وهذا المطلب يتخذ أهمية خاصة على خلفية تأكيد عدد من السياسيين أن استعادة الدولة مواردها السليبة وضبطها آلية جباية الضرائب والرسوم كافيان، في حد ذاتهما، لتأمين موارد تغطي تمويل سلسلة الرتب والرواتب.
وسط أجواء الشائعات الطاغية على الساحة السياسية اللبنانية، والتهم المتبادلة بين الشارع المعارض للضرائب والسراي الحكومية، قد يوحي فرض الضرائب قبل البدء بالإصلاح بأن الدولة تهاب المس ببؤر الفساد ومصادر الهدر المستحكمة في الكثير من دوائرها؛ ما قد يعطي أرباب الفساد والهدر إشارة خاطئة بأن الدولة أضعف من أن تقدِم على التصدي لها.
ربما تأقلم اللبنانيون الذين أمضوا 12 سنة دون قطع حساب ولا موازنة مع هذه «السابقة المالية»، وباتوا يتحسبون من العودة اليوم إلى الانضباط في كنف دولة كان غيابها عنهم أفضل لمصالحهم الخاصة من حضورها. والواقع أنه لولا ضغوط البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي، مضافة إلى ضغوط موظفي القطاع العام (المدني والعسكري)، لربما استمر لبنان في التغاضي عن أهم موجبات الدولة العصرية: موازنتها العامة. ولكن كيف يمكن لدولة 70 في المائة من عجزها المالي مرده رواتب الموظفين وخدمة الدين العام، أن ترضي قطاعها العام في حين أفضل شرائحه دخلاً وامتيازات، أي الجسم القضائي، يتململ هو أيضاً من عجز رواتبه على اللحاق بأعبائه المعيشية؟
في ظل واقعيها المالي والإداري الراهنين، والأوضاع الإقليمية الضاغطة عليها، قد لا تلام الدولة اللبنانية إذا كان أقصى ما يمكن أن تفعله اليوم هو وضع موازنة «ترضية» لموظفيها لا موازنة «تنمية» لمواطنيها.