سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

2016: صحافة لبنان

ختم العام الماضي نفسه على حدثين محزنين، شخصيًا ومهنيًا. الأول، إغلاق صحيفة «السفير»، والثاني، الإعلان عن صرف 70 محررًا وموظفًا من «النهار»، التي كانت تضم تقليديًا أكبر عدد من الصحافيين، بأجيالهم المختلفة. ولا شك أن الوضع الاقتصادي وأزمة الصحافة الورقية عاملان أساسيان في أحزان الصحافة اللبنانية. لكن الأستاذة سوسن الأبطح أشارت في مقالها الأسبوعي في 26 ديسمبر (كانون الأول) الماضي إلى نقطة جوهرية أخرى، وهي أن الصحافة اللبنانية الموروثة لم تستطع أن تحول نفسها إلى مؤسسات قابلة للحياة. والحقيقة أن الصحافة اللبنانية على مدى تاريخها، الذي يزيد على قرن ونصف القرن، كانت صحافة عائلية، أو شخصية. ومنها «النهار» كبرى الصحف وأقدمها، التي ورثها غسان تويني عن والده جبران، ثم ورثها ابنه جبران عنه، ثم آلت إلى نايلة، ابنة جبران الكبرى.
أقدم غسان تويني في عز «النهار» أوائل السبعينات، على محاولة رؤيوية كعادته، بأن جرب تمليك المحررين جزءًا من الأسهم، لكن المحاولة فشلت، ليس لسبب. وعندما غادرت الصحافة إلى أوروبا، كانت كلها عائلية: مجلة «المستقبل» التي أغلقت على يد صاحبها نبيل خوري. و«الوطن العربي» التي أغلقت بعد وفاة مؤسسها وليد أبو ظهر. وأخيرًا «الحوادث» التي أغلقها ورثة ملحم كرم بعد وفاته، وأغلقوا معها صحيفة «البيرق» في بيروت.
تستمر بجد وجهد «دار الصياد» التي يملكها أبناء الراحل الكبير سعيد فريحة، عصام وبسام وإلهام، وتصدر عنها «الأنوار» و«الصياد» و«الشبكة». وليس من إشارات إلى صعوبات. كما ليس من إشارات إلى طموحات. ولا يزال سعيد فريحة يقوم من رماده كل يوم يكتب أجمل عمل صحافي في مطبوعات الدار، وأحيانًا، في مطبوعات لبنان. وقد قرأت له قبل أيام «جعبة» مؤرخة عام 1944 عن عملية شنق في حلب. وفي الأدب الإنجليزي مقالة لجورج أورويل عنوانها أيضًا «عملية شنق». وأنا مستعد للمثول أمام أي محكمة بتهمة المبالغة أو الجنون. لأنني أريد التأكيد، أن الشنق الكئيب عند أورويل لا شيء، ثم لا شيء، أمام التحفة الصحافية التي تركها سعيد فريحة يوم كان محررًا ناشئًا في حلب.
وهذا المعلم العجيب كانت «الصياد» تباع في حياته من أجله، ولا تزال تباع بسببه. وأعتذر صادقًا من جميع كتابها، وكتّاب لبنان، إذا اقتضى الأمر. لكن الأجيال التي تبحث عنها زميلتنا سوسن الأبطح لم يعد ممكنًا أن تنبت في مناخات اليوم. فهذه مهنة الشغف، لا الاحتراف. جميع كبارها غابوا دون أن يحترفوا. غسان تويني كان يسأل محرريه رأيهم في مقالته وكأنه يعمل لديهم. ورشدي المعلوف كان يكتب «مختصر مفيد» كل يوم على إيقاع الموسيقى الكلاسيكية التي يعلم تاريخها. وكامل مروة كان يكتب كل افتتاحية كأنها كتاب تاريخ.
كان كبار كتّاب الصحافة اللبنانية كبار شعراء وكتّاب لبنان. أمين نخلة، والأخطل الصغير، وسعيد عقل، وفؤاد سليمان، وإلياس أبو شبكة، والشيخ عبد الله العلايلي، وعمر فاخوري، وحسين مروة، وتقي الدين الصلح، وفيليب تقلا، ومن لا تتسع الذاكرة لتذكّره. وكان لبنان غير ما هو اليوم، والعرب غير عرب هذا الوقت، والأمة مشرقة كأنها لن ترى ظلامًا أبدًا. عناصر كثيرة تجمّعت على الصحافة، في لبنان وخارجه. وكم هو لبنان أجرد من دونها.
إلى اللقاء..