أمل عبد العزيز الهزاني
أستاذة في جامعة الملك سعود في السعودية. باحثة في علوم الوراثة الجزيئية. خبيرة في الإدارة الأكاديمية. كاتبة سياسية منذ عام 2009. كاتبة مقال أسبوعي في «الشرق الأوسط».
TT

موازنة موزونة وميزانية متزنة

لأهمية شرح عنوان المقال، فالموازنة هي خطة مالية مستقبلية تضعها الحكومة لتوضيح سياستها المالية في العام المقبل أو الذي يليه، أما الميزانية فهي النفقات الفعلية التي صرفتها الدولة خلال العام المنتهي. وفي ذلك، فقد أثنت معظم الصحف العربية والأجنبية على عنصر الشفافية الذي رافق تفاصيل إعلان ميزانية العام المنصرم 2016 وموازنة العام المقبل 2017. كأمر تاريخي لم يسبق للمملكة العربية السعودية أن قامت به أثناء شرح عملياتها الحسابية المتعلقة بالسنة المالية. حتى أنه يمكن للمرء توقع كيف ستكون عليه موازنات الأعوام الأربعة المقبلة حتى 2020.
في ظل اقتصاد عالمي بطيء، وتراجع ملموس لأسعار النفط خلال السنوات الثلاث الماضية، ومبادرات تنموية كبرى ضمن برنامج التحول الوطني، أعلنت السعودية عن موازنة العام المقبل بواقع إنفاق 890 مليار ريال، زائدًا عن إنفاق العام 2016 الذي بلغ 825 مليارًا.
العناصر المهمة لتقييم أي موازنة هي حجم الإنفاق، والعجز، وحجم الإيرادات. وفي حال المملكة التي تصبو إلى تقليل الاعتماد على النفط كمصدر أساسي للدخل، يعتبر حجم الإيرادات غير النفطية هدفًا رئيسيًا في رؤية المملكة الجديدة. بحسب البيانات التي غطتها وسائل إعلام محلية وأجنبية باهتمام كبير، فإن العجز سيتقلص، وحجم الإنفاق الحكومي سيرتفع، وحجم الإيرادات غير النفطية سيرتفع أيضًا. هذه الإيجابيات كما ذكرت وكالة «بلومبيرغ» للأنباء لم تكن متوقعة، خاصة من ناحية العجز حيث كان التنبؤ أن يصل أعلى من ذلك.
أرقام الميزانية والموازنة تشير إلى نقاط مهمة هي ما يمكننا تلخيصه بعد سيل الأرقام الذي أعلن عنه. من أهم ما يمكن ملاحظته أن هذه الشفافية التي اعتمدتها الحكومة السعودية استهدفت فيها بالدرجة الأولى المواطن، الذي وضعته في صورة الواقع ليدرك مغزى الإجراءات التقشفية التي قررتها الحكومة. من الواضح أن السعودية لا تحل أزمة تراجع النفط من خلال رفع أسعار الطاقة أو استقطاع جزء من بدلات الموظف الحكومي، لو كان الحال كذلك فنحن أمام أزمة مؤقتة نحاول تسوية أمورنا وربط الحزام حتى تعبر العاصفة. لكن الحقيقة أن السعودية، ولأول مرة، وضعت خطة لأربع سنوات تنوي فعليًا تنفيذها، وهذه الخطة التي تأجلت أعوامًا كثيرة، تتطلب من ناحية مراجعة مفاهيمنا حول الإنفاق وثقافة العمل، متزامنة مع إعادة هيكلة الاقتصاد وتغيير السياسة المالية. هذه المرحلة التي تتراجع فيها قيمة البرميل النفطي صادف أنها كانت الإنذار الذي أيقظ الكل لإعادة الأمور إلى مسارها الطبيعي، وإلى استخدام عوائد النفط ليس في الإنفاق الحكومي فقط بل في إنعاش القطاع الخاص الذي تعول عليه «رؤية المملكة 2030» ليكون رافدًا مكافئًا للنفط، وبديلاً إن تحولت الظروف، من خلال استقطاب رأس المال الأجنبي، ودعم المشروعات المتوسطة والصغيرة. كل التنبؤات السلبية لم تكن دقيقة، والموازنة جاءت أفضل بكثير من التوقعات رغم الانكماش، ومن هنا شعر المواطن أنه جزء أساسي من الخطة حينما استقطعت الحكومة جزءًا من دخله وقررت رفع سعر الطاقة أسوة بالسعر الدولي. فالاقتصاد السعودي لا يزال متينًا بحسب قراءات وكالات التصنيف العالمية، ويهدف إلى تحقيق توازن ما بين الإيرادات النفطية وغير النفطية بحلول عام 2020 الموعود.
الحكومة السعودية تواجه خلال الأعوام الأربعة القادمة تحديين اثنين؛ الأول زيادة حجم الإيرادات غير النفطية والذي يعتبر أهم معيار لنجاح الهيكلة الاقتصادية الجديدة، وتعتمد في هذا على القطاع الخاص وفتح المجال للاستثمار الأجنبي من خلال سياسات تيسير جديدة وشراكات مع شركات كبرى جرت المفاهمة حولها. التحدي الثاني هو تقليل أثر هذا الانكماش على حياة المواطن خاصة الطبقة الوسطى التي يخشى عليها أن تتقلص إن تم رفع الأسعار. وهنا أقرت الموازنة الجديدة ما عرف باسم «حساب المواطن»، وهو رصد مبلغ نقدي يمنح للمواطن وفقًا لمستوى دخله وعدد أفراد أسرته ومعايير أخرى تتوقف على ظروفه. هذا الدخل الإضافي سيعوض العجز في النفقات بالنسبة للمصروفات لدى الشريحة المتوسطة والأقل منها، ويستثنى من ذلك طبقة الأثرياء. في هذا العام رصد مبلغ 25 مليار ريال لحساب المواطن وسيزداد تصاعديًا حتى يبلغ 60 مليارًا في 2020، وفي هذا دلالة على مراهنة الحكومة بأن خطتها ستصل إلى مبتغاها وأنه يتعين عليها تنفيذ المزيد من الضوابط.
ولا يمكن لي أن أكتب عن موازنة 2017 دون المرور سريعًا على ما تم تخصيصه للقطاع الأكثر إنفاقًا وهو التعليم، الذي استحوذ على ربع الموازنة كالعادة. صحيح أن معظم هذه الأموال تذهب في صرف رواتب الموظفين لكن تظل فرص تطوير التعليم كبيرة، خاصة في مجال الأبحاث العلمية التي تأثرت خلال العامين الماضيين حينما وضعت بعض الجامعات اشتراطات تعجيزية للمشاركة العلمية بالأبحاث السعودية في الخارج، وكذلك دعم الباحثين الجدد الذين تخرجوا حديثًا. أيضًا تطوير البنى التحتية والمناهج اللاصفية واستقطاب الخبراء وغيرها، أمور لا تزال تحتاج إلى المزيد من النظر.
في قراءة مستقبلية، معظم المحللين في المؤسسات الصحافية الكبرى يشيرون إلى توقعات إيجابية خلال السنوات الأربع المقبلة مع استمرار ضبط النفقات، تليها فترة انتعاش. يتطلب ذلك وضع تشريعات واتخاذ قرارات حازمة، هي أشبه بعملية جراحية، قد تكون في بعض مراحلها مؤلمة، لكنها ضريبة التعافي.
[email protected]