مشعل السديري
صحافي وكاتب سعودي ساخر، بدأ الكتابة في الصحف السعودية المحلية، ثم في صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية، تتميز كتاباته بالسخرية اللاذعة، ويكتب عموداً ثابتاً في «الشرق الأوسط».
TT

يؤجر المرء على رغم أنفه

تقول الآية الكريمة: (ومن يتقِ الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب).
كثير من الناس انطبقت عليهم هذه الآية في حياتهم العملية قولاً وفعلاً، خصوصًا إذا كانوا ممن (يعملون المعروف ويرمونه بالبحر) - أي لا يرجون من ورائه ثوابًا، وإنما دافعهم بذلك إنساني بحت.
ولا أكذب عليكم أنني حاولت أن أتأسى بهذه النماذج الراقية من البشر، غير أنني للأسف كلما عملت معروفًا ورميته بالبحر، فسرعان ما أندم على فعلتي تلك.
وعمل المعروف من الممكن أن يفعله أي إنسان مهما كانت ملته، مثلما فعله الأميركي (جويل ماسياس) أثناء قيادته لسيارته في (شيكاغو)، عندما لاحظ عجوزًا في أرذل العمر، وهو يدفع بالكاد عربة لبيع الحلوى للأطفال، فعطف عليه وتوقف واشترى منه، ثم التقط له صورة ونشرها فيما بعد على (فيسبوك)، وأحدثت الصورة تفاعلاً كبيرًا، وتوالت التبرعات للعجوز ووصلت حتى الآن إلى (176) ألف دولار.
ومثله أيضًا عامل نظافة عجوز من الجالية (البنغالية)، كان المسكين واقفًا وبيده المكنسة أمام (فاترينة) معرض لبيع الذهب والجواهر في الرياض، وهو ينظر من خلال الزجاج بأسى لهذه المعروضات الثمينة.
ومر عليه شاب مستهتر والتقط له صورة دون أن ينتبه العامل، ونشرها على موقع التواصل الاجتماعي، وكتب تحت الصورة بما معناه: إن من واجب هذا العامل أن ينظر (للزبالة) لا للجواهر.
وما إن نشر الصورة وعبارته المخزية تلك، حتى كان لها فعل النار عندما تشتعل بالهشيم، إذ إنها حركت وأيقظت ضمائر كانت تغط في سبات عميق.
فانهالت التبرعات على العامل من كل الجهات، وأول المتبرعين كان صاحب المعرض، إذ تبرع له بطقم جواهر كامل، إلى جانب ثمانية أطقم أخرى من تجار الذهب، ووصل مجموع التبرعات النقدية إلى مئات الآلاف من الريالات، وأعجب التبرعات أتت من تاجر (جايب العيد)، ولا أستبعد أن الحماس قد نزل عليه عندما كان مؤجر الطابق العلوي من رأسه، إذ إنه تبرع لذلك المسكين بسيارة (بينتلي) جديدة، ولم يكن ينقصه إلا أن يشترط على العامل أن يسوقها بنفسه، وإذا لم يستطع فإنه يسحب تبرعه.
المضحك المبكي أن محاميًا أتى للعامل متبرعًا دون مقابل أن يرفع قضية ضد صاحب الصورة والتعليق السخيف، غير أن العامل شكره ورجاه ألا يفعل ذلك، وطلب منه بدلاً من ذلك أن يدله ويجمعه مع صاحب التعليق ليقبل رأسه، لأنه لولاه لما فتحت له نافذة القدر.
وختامًا لا أملك إلا أن أردد القول المعروف: (يؤجر المرء على رغم أنفه).
والأجر للعامل، وللمتبرعين، وكذلك الشاب المستهتر، وأحشر نفسي معهم وأقول: وأيضًا لكاتب هذه السطور.