نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

أميركا والعرب

على مدى عقود، نأمل أن تكون مضت وانقضت، تعامل الجهد العربي الجماعي مع أميركا بمنطق ينطوي على قدر كبير من السذاجة والتسليم بالنفوذ المطلق.
وكانت السياسة التي تنفذ غالبا تحت يافطة جامعة الدول العربية، تنحصر في وفود تؤلف عقب كل قمة، وتقوم بزيارة الولايات المتحدة تحت عنوان شرح قرارات القمة العربية وطلب دعمها والاستجابة لرغباتها.
كان الأميركيون قد عرفوا كلمة السر، فيستقبلون الوفد بحفاوة ويفتحون له كل الأبواب، ويقيمون له المآدب وما يلزم، ثم يودعونه بمثل ما استقبل به.
وهذا النمط المتكرر في التعامل العربي الجماعي مع أميركا، أفرز مع الزمن ظاهرة مرضية انفرد بها العرب عن غيرهم من باقي الأمم.. وهي أنهم الأقل تأثيرا في مصيرهم، والأقل دورا في قضاياهم.
وبوسعنا القول.. كانوا ضيوف شرف بالمعنى الرمزي في كل ما يتصل بهم.
والآن، وبلاد العرب من محيطها إلى خليجها أصبحت مركز الكون وساحة صراع داخلي وإقليمي ودولي، هل يظل الأمر كما كان على مدى عقود مضت، أم أن القواعد النمطية للعبة لا بد أن تتغير وأن الذي يجب أن يغيرها هم العرب.
الواقع الراهن يقول، وبصورة غاية في الوضوح، أن جميع الشعوب والأمم أدركت بالحسابات، وليس بمجرد الأمنيات، أن التبعية العمياء لأميركا لم تعد مبررة، وأن المتبوع ذاته يعاني ضعفا داخليا وتحالفيا، وأن الهراوة المرعبة لم تعد جاهزة للعمل، فلا لزوم إذن للتهيب والخوف من التبعية.
أميركا قوية.. نعم.
أميركا هي الأقوى.. بالحسابات التقليدية العسكرية وحتى الاقتصادية رغم الأزمات، هذا صحيح.
إلا أن الجاهزية الأميركية لاستخدام هذه القوة، وفق القواعد القديمة قد تراجعت، وهذا يعني كما لو أن القوة ذاتها تراجعت ووهنت.
لا ضرورة لإيراد قرائن على هذه الحقيقة، إذ تكفي قراءة بسيطة للوقائع الجارية في الشرق الأوسط، وأوروبا وروسيا والصين وحتى إسرائيل، لنخلص إلى حقيقة لا جدال عليها، مفادها ليس فقط تراخي القبضة الأميركية على العالم، بل خذلان النظام الأميركي لنفسه، بعد التفجر المتسلسل للأزمات الداخلية، والنزوع الأميركي من مواقع الأزمات نحو المهادنة والتضحية بمصالح الحلفاء، وبتبسيط أكثر بلوغ حالة يخشى فيها ركاب الزورق المثقوب من أن يبدأ صاحب الزورق بتخفيف الحمولة وإلقاء بعض الركاب إلى قاع البحر.
أوروبا الزوجة الشرعية والوفية لأميركا، ولا أصدق أن كل هذه الضجة حول مراقبة الهواتف هي بسبب الاعتداء على خصوصية السيدة ميركل. إن الخصوصية أمر مهم في المجتمعات المتقدمة، وحتى بين الأزواج، إلا أنها تصلح كذلك مدخلا لمراجعة العلاقات وتحسين مستوى الأداء في أمر احترام الحلفاء.
والسعودية الحريصة على مصداقيتها في المواقف واحترام قواعد صداقاتها، ربما تكون سبقت أوروبا في إشهار بطاقة صفراء للصديق الكبير وشبه الحليف، مفادها «ما هكذا تجري الأمور ولا هكذا تدار العلاقات بين الحلفاء في أمور تتصل بمصائرهم ومصائر من هم ملزمون بمصالحهم من الأصدقاء، والأشقاء».
ما هكذا يجري التعامل مع الملف السوري، ولا هكذا يجري التعامل مع الملف الفلسطيني، ولا هكذا تتم الهرولة إلى إيران مع أول إشارة ملتبسة تصدر من هناك.
وإذا ما فتحت الملفات جميعا.. فسنجد ألف «ما هكذا» تنهض من ثنايا وقائع التاريخ البعيد والقريب.
السعودية، التي تحدث الكثير من قادتها ودبلوماسييها عن شكوك تجاه السياسة الأميركية الراهنة، لن تصل ويجب ألا تصل إلى أزمة متفجرة، إلا أنها وبحكم أنها دولة مهمة وركن من أركان الاستقرار الدولي، في واحدة من أكثر مناطق العالم أهمية وحساسية، ولها امتدادات واسعة وعميقة على مستوى العالم، تحتاج كما يحتاج أشقاؤها إلى مراجعة هادئة ومحسوبة وجريئة لمجمل العلاقات مع الولايات المتحدة، وفي هذا الشأن ينبغي ألا تكون بمفردها في عمل كبير كهذا، إن جدارا عربيا لا بد أن ينشأ معها ومن ورائها ومن حولها فإذا كان هنالك عرب لا يروق لهم دور كهذا فإن العرب المحتاجين بإلحاح لهذا الدور هم بكل المقاييس يشكلون أكثرية مطلقة في المشرق والمغرب، وإذا ما وجد سياسيوهم وخبراؤهم سبيلا لتجسيد هذا الجدار واقعا وفعلا، فإنهم سوف يدخلون حتما إلى نادي التأثير الدولي، الذي صار مفتوحا على مصراعيه أمام من يستطيع ويثبت قدراته وحضوره.
لقد تابعت مؤشرات قوية تصب في هذا الاتجاه؛ أولها الوقفة السعودية والخليجية مع مصر، وهي قوية ومؤثرة حد الحسم، والرسالة السعودية بالاعتذار عن مقعد مجلس الأمن، وكلمة المملكة حول الشرق الأوسط في المجلس، ثم تجلى العرفان المصري بالدور السعودي والخليجي عموما، وهو بالمناسبة ليس بفعل المال الذي لا ينكر أحد أهميته في الأزمات الكبرى، ولكن بفعل المتطلبات الاستراتيجية للأمن القطري والقومي على السواء.
إنه الوقت المناسب للمراجعة، ووضع القواعد الجديدة للعلاقات وإدارة المصالح المشتركة. وبدل أن نظل الملعب إلى ما لا نهاية فقد آن الأوان لنكون اللاعبين.