سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

غادة الرسائل الأنسية

إذا كان لغادة السمان سبع رسائل من أنسي الحاج، هذا على الأقل ما كشفت عنه، ففي جعبة الروائية اللبنانية حنان الشيخ عشرون، ومن المرجح جداً، ان ثمة رسائل منه كتبها لأخريات يتحفظن عليها، بانتظار أن يفرج عنها يوماً ورثتهن من بعدهن، إن لم تتلف على وجه السرعة. وهذا تحديداً ما تحاول أن تتفاداه غادة السمان، التي كل جريمتها أنها أخرجت إلى النور ما كان موجوداً في العتمة.
البعض بات يطلق عليها «ويكيليكس» أو أنها بلغت «سن اليأس الأدبي»، «أنانية»، «انتهازية»، «تتسول الشهرة التي غادرتها»، الاتهامات كثيرة، والتفسيرات أحياناً مضحكة. كأن تتهم قارئة فطنة غادة السمان بأنها لفقت الرسائل. هذا حقاً مما لا يخطر على بال! ربع قرن انتظرت كي تنشر رسائل غسان كنفاني، ربما كان الوقت مبكراً حينها، وزوجته لا تزال على قيد الحياة، وليست الكارثة أنه مناضل فلسطيني يتوجب عدم شرخ صورته. أنسى الحاج رحل منذ سنتين، وكانت زوجته قد سبقته، عمر رسائله يفيض على النصف قرن، أحبها ولم يكن قد تجاوز السادسة والعشرين، وهي صغيرة لم تبلغ العشرين. ما كتبه لها هو توله وضياع، وبحث عن الذات، وسؤال عن الكينونة، أكثر مما هو حب ناضج، متيقن. إنه أشبه بحب طفل، فقد والدته يبحث عن حضن دافئ لا يعرف كيف يعثر عليه؟ ولا أين؟ ويبدو أن غادة السمان لم تكن قد خدعت، رغم يناعة سنها، بتلك المشاعر الضبابية، رغم أنها بلغت حد الجنون في لحظات الذروة.
حتى «دار الوثائق البريطانية» تبوح بأسرارها بعد خمسين سنة. يذهب تفكيري الى ولدَيّ أنسي، وتحديداً إلى ندى الشاعرة الرقيقة. لكن قصص أنسي الحاج لم تكن خافية على أحد، وإن كانت حكاية السمان ليست من بين المتداول. خسر الأدب العربي ثروة من رسائل الحب والبوح، بسبب الإتلاف المتعمّد للإفلات من العار. أتذكر، ليلى السيدة التي أحبها الياس أبو شبكة، وكتب لها عشرات الرسائل. روت لي أن شقيق زوجها يوم عثر على الكيس الكبير الذي خبأت به رسائل أبو شبكة، أحرقه برمته بعد أن أشعل فيه النار وحوله إلى رماد أمام عينيها. ولم تخفِ القاصة العراقية ديزي الأمير يوماً أن في جعبتها الكثير. يوم نشرت رسائل الشاعر خليل حاوي حذفت اسمها وتوارت، وحين أرادت أن تنشر رسائل الشاعر السوداني محمد المهدي المجذوب إليها، أصابها الإرباك، وأعطتها للشاعر رجاء النقاش ليتصرف ويجد لها إخراجاً مناسباً، لكن الرجل رحل، ولم تبصر الأمانة النور. ديزي، اللطيفة، الحيوية، كانت امرأة نجمة في ستينات القرن الماضي في بيروت، حام حولها رجال الأدب ولا بد أن كثراً خطبوا ودّها، وكتبوا ولههم بها، وهذا ما لن نعرف عنه شيئاً، ربما وإلى الأبد.
معرفة حنان الشيخ بأنسي الحاج بدأت منذ كان لها من العمر ستة عشر عاماً. هذه العلاقة تحولت في فترة ما إلى حب من طرفه، ورسائله إليها محفوظة، ولكن إلى متى؟ وإلى متى أيضاً ستبقي في خزائنها رسائل قصة الحب التي ربطتها بأديب آخر هو إحسان عبد القدوس؟ إلى أجل غير مسمى، طالما أن النشر، يفتح أبواب الجحيم، وما دامت حنان الشيخ ليست على استعداد لمواجهة عاصفة الرعد الغاضبة، من أجل كتاب.
تسلحت غادة السمان بغيابها، وببعدها الجغرافي ومهجرها الباريسي، وهو ما لا تجيده حنان الشيخ. استفادت من عزلتها الإعلامية الاختيارية، ومع ذلك بقيت جرأتها منقوصة، والحسابات تكبلها. نشرت رسائل أنسي الحاج، من دون مقدمة تشرح فيها للقارئ الذي تكرر أنها تصارحه، ماهية هذه العلاقة، كيف بدأت؟ كم استمرت؟ لماذا كانت تلتقيه باستمرار طالما أنها لا تريد أن تبادله رسالة واحدة؟ ونفهم من كلمات أنسي الحاج أنها كانت هازئة، وغير مصدقة لما ينتابه من مشاعر. غادة التي تباهي بالبحث عن الحقيقة أخفت أكثر مما كشفت. خصّت غسان كنفاني بمقدمة مذهلة نظّرت فيها لأدب البوح، كما لم يفعل أحد، وهو ما لم يرافق الدفعة الثانية من رسائلها الحميمة. لم نعرف مثلاَ هل هي سبع رسائل فقط كتبها لها أنسي الحاج، ونشرتها دفعة واحدة، أم أنها اختارت ما شاءت وأخفت الباقي؟ هل الرسائل المنشورة مرتبة زمنياً تبعاً لوصولها، خاصة أن بعضها غير مؤرخ؟ في أي ظروف كان يكتب لها، وكيف يوصل خطاباته؟ ولماذا كان يكتب أصلاً، طالما أنهما يتقابلان يومياً؟ لا تزال الأسئلة أكثر من الإجابات، والخفي أكبر من المعلن بأضعاف. لماذا تنشر الأديبات المراوغات، رسائل من طرف واحد باستمرار؟ أين رسائلهن إلى من أحبوهن؟ وهل ثمة من يستطيع أن يكشف عنها، ولا يفعل؟ هل يعقل أن الرجال كانوا يكتبون لنساء يبقين صامتات، أو يضيعن الرسائل؟ والحديث هنا، لا يخص غادة السمان وحدها.
من ينقذ عشرات الرسائل المحفوظة في المخابئ النسائية؟ هل من جمعية أدبية «موثوقة» أو مؤسسة عريقة يمكنها ان تؤمّن خزنة مكتوباً عليها «سرّي للغاية» بمقدورها أن تجمع هذه الثروة الأدبية المعرضة للاندثار، وتتعهد بالتعامل معها وفق ما يوصي به أصحاب الشأن. غادة السمان وجدت حلاً فردياً ذكياً، وخبأت ما لديها في خزانة في أحد البنوك، كما تفعل النساء مع مجوهراتهن الثمينة، ومع ذلك يبدو أن الخوف من ضياع ما لديها يجعلها تتعجل النشر، فمن يحلّ مشكلة الأخريات المثقلات بالوثائق والأسرار؟
أدب الاعتراف (والرسائل العاطفية) لعبة غربية لا نجرؤ كثيراً على خوض غمارها، فإذا أبتليتم فاستتروا!