د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

العرب وترامب!

أيًا كانت الأسباب التي أدت إلى فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأميركية، فإن ما يهم هو أن الرجل بات رئيسًا للولايات المتحدة. في النهاية انتصر التغيير على الاستمرارية، والرجل القادم من خارج «المؤسسة» هزم هيلاري كلينتون التي كانت مصممة على أن تمضي فترة رئاسة ثالثة لباراك أوباما، ومن يعلم ربما فترة رابعة أيضًا. مثل ذلك لا يحدث في أميركا، فقد كان للشعب الأميركي رأي آخر، وجاء رجل الأعمال الملياردير مسلحًا بكثير من الأفكار غير التقليدية التي كانت صدمة للكثيرين في الولايات المتحدة أولاً وبقية العالم ثانيًا. وفي الوقت الراهن، فإن عواصم العالم مجتمعة تشعر بقدر غير قليل من القلق حتى وهي ترسل التهاني والتمنيات الطيبة، وترامب يبادل الجميع الوعود العائمة حتى يأتي الوقت الذي يتسلم فيه السلطة والمكتب البيضاوي في البيت الأبيض، وبعدها سوف ترفع الأقنعة، وقد تنزع القفازات أيضًا.
في العالم العربي توجد مدرستان للتعامل مع ترامب خلال هذه الفترة. الأولى أقل قلقًا، فالعرب تعاملوا مع رؤساء أميركيين من كل نوع، الديمقراطي والجمهوري، والليبرالي والمحافظ، والتدخلي والانعزالي، والخليط من كل ذلك. ومع ذلك فإن كل الرؤساء الأميركيين يأتون ويذهبون، ولكن المصالح الأميركية تبقى دائمًا، ومؤسسات صنع القرار «تخرط» الرئيس وتضعه في القالب الذي يجعله جزءًا من منظومة دائمة. وترامب لن يكون استثناء من القاعدة، فسوف يدخل «المخرطة» التي تضعه في القالب المعتاد الذي يمكن التعامل معه. المدرسة الثانية تنظر للمسألة من منظور آخر، وهو أن الأفراد لهم دور في التاريخ، وأن الدول الديمقراطية لا تعقد الانتخابات نوعًا من الرياضة القومية، ولكن من أجل فرز اختيارات متعددة، وهذه المرة، وخلافًا لكثير من المرات السابقة، فإن أميركا كانت منقسمة على نفسها، وقد فاز اتجاه مخالف لكل ما درجت عليه أميركا منذ الحرب العالمية الثانية، وبالتأكيد ما سارت إليه الأمور بعد انتهاء الحرب الباردة.
على أي الأحوال، وأيًا كانت جدارة المدرستين في التحليل والرصد والتنبؤ، فإن الحيطة واجبة، خصوصًا أن ترامب لم يكن كريمًا مع العرب، والأخطر أنه بدا في حملته غير عارف بهم، وكثيرًا ما خلط بينهم وبين المسلمين في العموم، وفي كل الأحوال أقام صلة بين «الراديكالية» و«الإسلام» و«الإرهاب» كان فيها دومًا نوعًا من التعسف المقصود. ولكن ذلك يقع في منظومة فكرية ومفهومية تقوم على عمودين من الفكر؛ أميركا أولاً، والعالم حولها إما عدو متربص أو حليف مستفيد أو جار مستغل. كلا العمودين يقود إلى فكرة جوهرية وهي أنه على عكس ما هو شائع أن أميركا كانت المستفيدة من العولمة الاقتصادية والسياسية في العالم، فإن ذلك لم يكن صحيحًا، وعلى العكس فإن أميركا كانت الخاسرة، ولكن هذا الخسران يمكن أن تكون له نهاية إذا ما استخدمت أميركا قوتها، وعرفت كيف تلعب بأوراقها وأهمها ليس فقط قوتها المسلحة، وإنما سوقها الكبيرة التي تجذب البشر والبضائع. فكر ترامب في النهاية هو خليط من سياسة «العزلة»، وأنواع جديدة من الإمبريالية المنفتحة على الأعداء الذين ليسوا بالضرورة كذلك، مثل روسيا، وعلى الأصدقاء، شريطة أن يدفعوا ثمن قيام أميركا بالدفاع عنهم، وأن يستمعوا إلى واشنطن أكثر مما استمعوا في السابق.
ضمن هذه المنظومة الفكرية، يقع العرب الذين يتحملون المسؤولية التاريخية عن واحدة من أهم التحديات التي تواجه الولايات المتحدة والعالم، وهي «إرهاب المتطرفين». وهنا فإن العرب يمكنهم أن يكونوا من الحلفاء الذين يقاومون هذا الاتجاه الدموي المهدد للأمن الدولي والإقليمي، كما أنهم يمكن أن يكونوا من الأعداء، لأن من بينهم من يقبل بهذه الآيديولوجية المدمرة. وسواء كان العرب من هذا الجانب أو الآخر، فإن عليهم أن يدفعوا الثمن حينما تقوم أميركا بتدمير هذه الظاهرة، وعندما يشاركون في المعركة ضدها. وفي كل الأحوال، فإن العرب باعتبارهم مسلمين ربما يصبحون غير مرحب بهم في الولايات المتحدة، ومن وصل منهم من قبل، أو حمل الجنسية الأميركية بطريقة أو بأخرى، فإنه سوف يكون موضوعًا لمعاملة أمنية خاصة. ووفقا لذا ربما لا يسمح المجال بنوع من الشراكة الاستراتيجية التي كانت نافذة خلال العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية بين دول عربية والولايات المتحدة. هنا يتوقف «الوضوح» الأميركي لدى دونالد ترامب، وتبقى أسئلة معلقة حول المدى الذي سوف يصل إليه الرجل في العداء لإيران، وفتح الملف النووي معها مرة أخرى، وأسئلة أخرى حول ما يبدو من السعي إلى تفاهم أميركي - روسي أو قد توافق، الغزل بدأ في هذا الاتجاه ولكن إلى أي مدى يصل، إلى هجران قريب إذا ما دفع الأوروبيون واليابانيون والعرب الثمن، أو إلى عشق يقسم العالم، ويحبط القوى الصاعدة من الصين إلى الهند.
قد يكون في هذا التفكير شطط، ولكنه يقوم على ما قال به وكتبه دونالد ترامب قبل وبعد دخوله الانتخابات الرئاسية، مع مدّ ما قاله على استقامته للبحث عما يمكن الوصول إليه من سياسات. وعلى أي الأحوال، فإن المراقبة والمتابعة ضرورية، وفحص الطاقم الرئاسي الذي سوف يحيط به لا بد منه، والمؤكد في كل الأحوال أن التعامل مع دونالد ترامب لن يكون كما كان التعامل مع إدارات أميركية سابقة. وهناك على الأقل عدد من الأمور التي قد تكون ذات نتائج عملية، وأهمها أن ترامب لا ينتمي إلى جماعة المحافظين الجدد الذين تبنوا مفهوم الفوضى الخلاقة، أو الاتجاهات «المعتدلة» لدى جماعة الإخوان المسلمين، أو أنه من أنصار الجماعات الحقوقية، فالرجل وصل به التهور إلى التبني المباشر للتعذيب. وهناك أيضًا، واستنادًا إلى ما قال إن ترامب ليس من المتحمسين لأنواع الطاقة المتجددة، وعلى العكس فإنه من أنصار إطلاق العنان لعمليات الاستكشاف لأنواع الطاقة التقليدية من الفحم إلى البترول. ورغم أنه على المدى القصير يمكن أن يؤدي ذلك إلى مزيد من الانخفاض في أسعار النفط، فإنه على المدى المتوسط والطويل قد يقود إلى ارتفاع الأسعار إلى حدود عالية.
العرب في هذا الأمر كله، وربما في أمور أخرى كثيرة، المفتاح في يدهم، وبقدر محافظتهم على عناصر قوتهم ووحدتهم تزداد إمكانياتهم في التعامل مع الظروف المتغيرة، بحيث يحولون ما هو منذر إلى ما هو مبشر، وما هو مخاطرة إلى فرصة. ترامب لن يكون رئيسًا عاديًا للولايات المتحدة، وعلى الأرجح أنه لم يكن هناك أبدًا رئيس عادي لأميركا، وإنما في كل الأحوال لا بد من ترويض وحكمة في التعامل. ومن دون مبالغة فإن تنسيقًا عربيًا في الموضوع هو ضرورة ملحة، خصوصًا بين القاهرة والرياض.