سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

صحافي

ما هو سر هذه المهنة؛ الصحافة؟ كان غيلبرت كيث تشسترتون شاعرًا كبيرًا وفيلسوفًا ومؤرخًا وناقدًا أدبيًا وعالمًا في اللاهوت. لكنه أصرّ حتى وفاته العام 1936 على أنه ليس سوى «صحافي». وعاش معظم حياته في «فليت ستريت»؛ لأن «الصحافة وحدها تدرك نبض الحياة».
عُرف تشسترتون بهذا الاسم حتى اليوم من دون اسمه الأول. وشغل الحياة الأدبية والسياسية في بريطانيا منذ أواخر القرن التاسع عشر، لكنه ظل مصرًا على أنه مجرد صحافي. وقالت له سيدة مرةً: «كيف لك أن تعرف كل هذه الأشياء؟»، فقال: «أنا لا أعرف شيئًا. أنا صحافي».
وكان غزير القراءات، مفضلاً أن يكون «أستاذ نفسه» بعدما ترك المدرسة مبكرًا. وقد أحزن أساتذته وأقلقهم، فقد كانوا يرون فيه موهبة كبيرة، لكنه كان حالمًا طوال الوقت لا يصغي إلى ما يدرّسون.
وقال عنه إفلين وو إنه كان محبًا ومحبوبًا إلى حد بعيد، مسرفًا في التواضع وفي الإحسان «لكن التواضع ليس الفضيلة التي يجب أن يتمتع بها الفنان، بل عليه أن يكون بخيلاً ومتكبرًا وخبيثًا وما يشبه هذه الصفات التي تدفعه إلى الطموح والحسد والطمع. ولذلك، قد يخسر نفسه، لكنه يعطي العالم الكثير من مواهبه».
لكن تشسترتون لم يلتفت إلى مثل هذه النصائح: لن يعرف الكبرياء والغرور و«صفات» الأدباء والشعراء. ولا حتى أخذ مؤلفاته على محمل الجد: «أهم ما في الأمر أن لدي آراءً أحب التعبير عنها، وقد فعلت». الحقيقة أنه لم يأخذ شيئًا على محمل الجد. لم يخطط لشيء ولم يسعَ إلى شيء، ولم يعط أهمية لشيء سوى الإنسان الذي فيه: «خارج ذلك، كان مهرجانًا من الزور والخبث والنفاق».
قيل إنه يكتب بغزارة دون أي عناية، كما كان موزارت يؤلف الموسيقى. وعرف عنه زملاؤه في «فليت ستريت»، قدرته على تأليف مقالين في وقت واحد: يكتب واحدًا، ويملي الآخر في الوقت نفسه. وقد أصرّ على لقب الصحافي لاعتقاده أنها الوسيلة الأكثر قربًا من الناس العاديين: «الجريدة هي الشيء الوحيد الذي يقرأه الرجل العادي في الباص».
يقول عنه الفيلسوف البلجيكي «سيمون ليس» إنه «كان يملك جميع مؤهلات الصحافي الكبير: الذكاء، الحيوية، الوضوح، الاختصار. ولكن من أجل أن تثير اهتمام الأغبياء يجب أن تكون غامضًا». معظم الأدباء الكبار في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين كانوا، بمعنى ما، صحافيين. بلزاك في فرنسا، وديكنز في بريطانيا، كانوا ينشرون رواياتهم على حلقات قبل جمعها في كتاب. وإذا ما غابت الصحافة الورقية، سوف يغيب معها مصنع المواهب الأدبية الكبرى.