طارق الشناوي
ناقد سينمائي، وكاتب صحافي، وأستاذ مادة النقد بكلية الإعلام في جامعة القاهرة. أصدر نحو 30 كتاباً في السينما والغناء، ورأس وشارك في لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية الدولية. حصل على العديد من التكريمات، وقدم أكثر من برنامج في الفضائيات.
TT

عُدت يا يوم مولدي

المغنية الأميركية شير بلغت أخيرًا السبعين، لم تستطع أن تواجه اللحظة وتقيم حفل عيد الميلاد، وجدت الرقم صعب الاحتفاء به، عدد الشموع التي عليها أن تطفئها أخافها، ولم تكن المرة الأولى التي تشعر فيها بالانزعاج من هذا اليوم، إلا أنها بددت أحزانها بالغناء، فهي منذ 14 عامًا تعتقد أن تلك الحفلة التي تقدمها هي الأخيرة، ولكنها تواصل الغناء، ويواصل الجمهور في الوقت نفسه الانتظار والترقب، وتستمر، وأظن أنها لن تقول وداعًا لخشبة المسرح؛ سحر اللقاء مع الناس لا يمكن مقاومته، خصوصا لو كلل بحالة دفء مع الجمهور.
لدينا فيروز تكبر شير بعشر سنوات، ولا تزال عربيا هي رقم واحد بلغة الأرقام، مهما تغيرت مفردات الغناء، فهي لا تزال في موقع «الألفة»، ورغم أن «جارة القمر» تمسكت بأسلوبها الكلاسيكي، من دون أن تُكثر من الحركة، أو حتى تخرج عن النص، مثلما كان يفعل أحيانًا عدد ممن عاصروا فيروز، مثل عبد الحليم حافظ الذي كان يحلو له أن يتعاطى الدواء في أثناء الغناء. تجددت فيروز مع الزمن بعد مرحلة «الأخوين رحباني»، من خلال موسيقى وكلمات زياد الرحباني الذي منحها نبض العصر؛ الاستمرار هو سمة المواهب الاستثنائية، فشارل أزنافور (92 عامًا) لا يزال يغني ولديه جمهور ينتظره، ووديع الصافي الذي احتفلنا هذا الشهر بذكرى رحيله الثالثة تجاوز الـ90 وهو يغني. هناك قوتان جسدية وإبداعية، لا أنكر أن الزمن يلعب دورًا سلبيًا في تقليص مساحات القوة، ولكن القدرة على إدارة الموهبة الإبداعية تلعب دورًا رئيسيًا في الاستمرار؛ هناك عمر افتراضي للاعب الكرة والسباحة وكمال الأجسام، إلا أن البعض حتى في تلك المجالات يحاول ألا يستسلم. جورج بوش الأب تعود مثلاً في عيد ميلاده قبل بضع سنوات قلائل أن يقفز ببراشوت ابتهاجًا بهذه المناسبة. المبدع لا يعتزل الحياة، يظل في الملعب، هكذا تعلمنا مثلاً من تجربة نجيب محفوظ الذي لم يغادر الساحة. وفي سنواته الأخيرة، بعد أن وهن الجسم والسمع والبصر، فكانت أحلامه هي زاده الذي يعيد صياغته في قالب فني مبتكر بقدر ما هو جذاب.
لا شيء يعوق الإبداع، حتى المرض؛ لقد سلم الكاتب الكبير على سالم مقالته الأخيرة لـ«الشرق الأوسط» قبل رحيله بساعات قليلة، رغم أنه كان يعاني من المرض الشرس، إلا أنه قاومه بالقلم وبعشق الحياة والتواصل مع الناس.
قبل 14 عامًا مثلاً، قررت المطربة نجاة أن تعتزل الغناء، إلا أنها عندما بلغت الثمانين كانت المفاجأة هي عودتها للغناء، وبالفعل سجلت أغنيتين، ولم تحدد بعد توقيت الإصدار، ولكن كل من أتيح له من الأصدقاء الاستماع لصوتها قال إن نجاة لا تزال هي الصوت الذي يرشق في القلب.
محمد عبد الوهاب الذي تجاوز التسعين ببضعة أشهر، ظل ممسكًا بالعود حتى آخر أيامه، كان يقول كيف احتفل بعيد ميلادي الذي يعني أنه قد خصم عام من رصيدي في الحياة، وهو ما كتب عنه الشاعر كامل الشناوي قصيدته التي لحنها وغناها فريد الأطرش «عدت يا يوم مولدي / عدت يا أيها الشقي / الصبا ضاع من يدي / وغزا الشيب مفرقي / ليت يا يوم مولدي / كنت يومًا بلا غد»، نظرة تشاؤمية كما ترى، والحمد لله أن المطربة الأميركية شير لا تقرأ العربية، ولهذا تواصل الغناء، رافعة شعار الحياة تبدأ بعد السبعين، وفي قول آخر: بعد التسعين!!