د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

التهافت على المسألة الإسلامية

هناك ظاهرة أعتقد أنها جديرة بالتوقف عندها، والاهتمام بها، بدأت تجتاح سوق الكتاب في فضاء النشر العربي. وتتمثل هذه الظاهرة في أن الكتابة حول المسألة الإسلامية، سواء من منطلق علاقتها بالحداثة، أو قضايا التكفير والتنظيمات «الجهادية» أو استهداف الإسلام ومشاعر الكراهية نحو المسلمين وأيضًا مشكلة الإسلام السياسي.. كل هذه الإشكاليات أصبحت محل اهتمام المختصين وغير المختصين، إذ إن عددًا واسعًا من الكتاب والإعلاميين لا يجدون حرجًا في نشر كتاب حول إحدى هذه الإشكاليات، والحال أنهم لم يكن لهم في سابق منشوراتهم أي اهتمام بهذه المسائل.
فكيف يمكن فهم هذه الظاهرة وتفسيرها؟ وهل نحن فعلاً أمام نوع من التهافت على الكتابة في المسألة الإسلامية؟ وإلى أي مدى هي ظاهرة سلبية؟
في البداية، لا بد من الإشارة إلى أن المسألة الإسلامية تعد من الموضوعات الآنية، وهي في غالبيتها تلقى رواجًا لدى القراء، وهو ما جعل منها موضوعًا ذا استقطاب تجاري، وتتنافس دور النشر في نشر مؤلفات وبحوث تقارب الظواهر الراهنة من مختلف الزوايا.
إذن على مستوى الموضوع، فإن المسألة الإسلامية أصبحت جذابة تجاريًا ويستجيب طرحها لتوقعات القراء وعطشهم في فهم إشكاليات عدة تحيط بالمسألة الدينية.
غير أن المشكلة تكمن أساسًا في تهافت الكتّاب غير المتخصصين؛ ذلك أنه يمكن أن يتحدث في المقاهي كل من هب ودب في هذه المسائل، ولا مانع حتى من دعوة شخصيات عامة في بلاتوهات القنوات التلفزيونية.. ولكن من الصعب القبول بنشر كتب حول هذا الموضوع تحمل إمضاءات من خارج دائرة الاختصاص.
ولقد قرأنا في الأشهر الأخيرة بعض العناوين لأقلام في الأدب والإعلام ينشرون بثقة عالية مؤلفات تتناول المسألة الدينية الإسلامية، سواء في مجال علاقتها بالثقافة العربية، وتأثيرها في كلية المنظومة القيمية المؤطرة لأنماط السلوك عند الأفراد أو قضية الإرهاب أو المسار التاريخي لظاهرة «التكفير» و«السلفية».. وفي الحقيقة تهيمن على هذه الكتابات الانطباعية والسطحية في الطرح والتحليل. وهي كتب تمارس نوعًا من التشويش السلبي على البحوث المختصة الجديرة بالاقتناء والقراءة، خصوصًا أن بعض الكتابات الانطباعية، تحمل إمضاءات معروفة، ويمتلك أصحابها شبكة واسعة من العلاقات الإعلامية.
طبعًا قد يرى البعض في هذه الكتابات ممارسة للحق في حرية التعبير، ومن الظلم وصفها بالكتابات المتهافتة أو المتطاولة أو المتطفلة. ومن المستندات التي يقدمها أصحاب هذه الكتابات، أن الدين موضوع يهم الجميع، وليس حكرًا على المختصين في الدين سواء في الحضارة الإسلامية أو التاريخ الديني أو علم الاجتماع الديني أو علم النفس الديني. وبهذا المنطق يواجه أصحاب الكتابات الانطباعية انتقادات المختصين الساخطين على من يصفونهم بالمتطفلين في هذه الموضوعات الحساسة والدقيقة، خصوصًا بالنسبة إلى الذين ينجحون في تشغيل الماكينة الإعلامية، ومن ثمة تحويل البحوث الجادة إلى بضاعة كاسدة.
نعتقد أن الإشكال يكمن في أهمية الموضوع، وفي حالة اللبس القائمة الذات حول فهم الإشكاليات المحيطة بالمسألة الإسلامية. بمعنى آخر نرى أن ما نعرفه اليوم في الفضاء العربي الإسلامي من مشكلات ذات صلة بالإرهاب والأفهام الدوغمائية للدين الإسلامي في علاقته بالدولة وبمكونات الهوية وعلاقته بالمعيش الاجتماعي الديني للمجتمعات العربية.. لا يحتمل كتابات فضفاضة، وذات تحليلات مشوهة وتفتقر إلى الحجة والمنطق وضعيفة الاستدلال؛ فالمسألة الإسلامية والدينية عمومًا من الجدية ما يجعلها أبعد ما تكون عن المنوعات والمواضيع العامة، ويحتاج الخوض فيها بطريقة علمية إلى إلمام بتاريخ الظاهرة بشكل دقيق، وأيضًا التمكن من المفاهيم ومناهج البحث إلى جانب امتلاك ثقافة واسعة نتاج الاطلاع على مدونة الكتب الصادرة حول هذه الموضوعات التي تشغل العالم اليوم ويحاول فهمها، لعله ينجح في تفكيكها وتحديد استراتيجية المعالجة.
من جهة ثانية، فإن الكتابات الانطباعية والمنحرفة بالمعنى العلمي للكلمة، إنما تزيد في حالة التشويش الثقافي، وتجعل القارئ عرضة للمغالطات وللتذبذب بين العناوين الانطباعية والأخرى المختصة، خصوصًا أنه من الصعب أن نجد قارئًا قادرًا على التمييز بين هذه الكتابات باستثناء المنتمين إلى المجال الفكري المشار إليه.
لا يفوتنا أنه اليوم في أوروبا والولايات المتحدة تنتشر هذه الكتب سهلة القراءة، التي لا تشمل الهوامش والإحالات العلمية والكتابة العلمية المتخصصة بالمعجم المفاهيمي للاختصاص، وأنها مطلوبة جدًا وتطغى عليها الكتابات التي تتضمن شهادات وسيرًا ذاتية لمشاهير المجتمع والسياسة.. ولكن نلاحظ أن المواضيع التي تحتاج إلى مقاربات علمية متخصصة، من النادر في الأوساط الأوروبية أن يتطرق إليها كاتب مجال اهتمامه الأول الصحافة أو الإبداع أو الآداب العربية أو الفرنسية وغير ذلك، في حين أن كثيرًا من دور النشر العربية تتعامل بتسامح يُطل على التهاون، وذلك بقبولها نشر كتاب يفتقد المنهجية العلمية، والحال أن أصحاب الاختصاص مهملون، ولا أحد يفكر في نفض الغبار عن كتبهم المهمة من حيث المضامين، التي لم تحظَ بأي مجهود لتسويقها.