مها محمد الشريف
كاتبة سعودية مختصة بقضايا الشرق الأوسط والعالم، كتبت في العديد من الصحف الرسمية السعودية وصحيفة «الرؤية» الإماراتية، وتكتب بشكل دائم في صحيفتَي «الجزيرة» و«الشرق الأوسط». لها اهتمامات بالرسم والتصميم الاحترافي.
TT

بلير بين التهرب والتكفير

أثار إعلان رئيس وزراء بريطانيا السابق توني بلير، عن توقف نشاط شركة الاستشارات التي جلبت له الملايين من الأرباح، وتحويل أصولها المالية لنشاطاته «الخيرية غير الربحية»، كثيرا من التساؤلات وعلامات الاستفهام.
فهل أعلن بلير هذه المبادرة ليجعل منها نقطة بداية للانتقال إلى مرحلة أخرى من حياته، يكفر فيها عما سلف من تاريخه السياسي؟ أم أنه رأى أنها الطريق الآمن للتهرب من الضرائب؟ إنها احتمالات واردة تفتح نوافذ التساؤلات على جوهر الإنسان الذي لا يقبل الظلم، وإذا أخل بذلك المبدأ وتجرد منه، فسرعان ما يمتهن المراوغة لتحسين صورته في عيون الآخرين.
كثير من الملابسات تدور حول هذا الإعلان، وتشي بهدف لا إنساني، وحقيقة لا يحجبها ستار المثاليات الوهمي، إذ تبددت الشعارات أمام قرار بلير بالاحتفاظ ببعض الزبائن لتقديم الاستشارات بشكل شخصي، وبالتحديد «بنك جيه بي مورغان» الاستثماري الأميركي الذي يعتبر من أكبر المؤسسات المصرفية في الولايات المتحدة والعالم، ويقع مقره الرئيسي وسط مانهاتن، بمدينة نيويورك.
لن نذهب بعيدا، ودعونا نتحول إلى محيطنا العربي، لنطرح السؤال الأهم: هل هذه الملايين ثمن العراق، أو نصف الكعكة التي تقاسمها الشركاء من صفقة تسليم العراق لإيران، بعدما تم تفكيك وتفتيت بنيته التحتية، وزرع الطائفية على أرضه حتى أصبحت خصبة لإرهاب «داعش» وأخواتها من الجماعات الإرهابية، ثم تركت الدولة في حالة نزاع وصراع طائفي تقوده إيران بمساعدة الدولتين العظميين أميركا وبريطانيا؟
لنتوقف قليلا عند تقرير لجنة تشيلكوت، بدءا من عدم نشره بالموعد المفترض عام 2012، ومطالبة رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون عام 2014 بنشر التقرير بشأن العراق، وصولا لصدور التقرير وما حمل من حقائق صادمة، إذ وصف مشاركة بريطانيا في عهد توني بلير إلى جانب الولايات المتحدة في غزو العراق بالعملية المتسرعة التي لم تفسح المجال للآليات الدبلوماسية، بل إنها بنيت على معلومات مغلوطة، وشكلت تجاوزا لبنود عمل الأمم المتحدة، ولكن التقرير الذي كلف عشرة ملايين جنيه إسترليني (نحو 13.5 مليون دولار)، والمكون من مليوني كلمة، لم يتوقف كثيرا عند مأساة الشعب العراقي، ولم ينتظر في محطة الشرق الأوسط الملطخة بالدماء والفوضى العارمة جراء تلك الحرب، بل ذهب إلى حجم الضرر الذي أصاب عائلات الجنود البريطانيين الذين قتلوا بالعراق، والجيش والاستخبارات وحزب العمال والبرلمان، والعلاقات بين لندن وواشنطن، وغيرها من الموضوعات الرئيسية في التقرير.
ألا يستحق كل ذلك أن تطالب الدول العربية بمحاكمة بلير وبوش في محكمة العدل الدولية بخصوص جرائم الحرب التي وقعت خلال غزو العراق، تمهيدا لإنهاء هذا الصراع الدموي، وهذه الفوضى العارمة، بعدما غادر فلول الاستعمار، وسلمت الأرض لغير أهلها، فالمجتمع الدولي ما زال يتجاهل ما يشاهده أو يسمعه دون تقديم أي قرار ينقذ شعب سوريا من نظامها المجرم، أو العراق من ميليشيات إيران.
هذا إذا قلنا إن مهام المحكمة تتلخص في الفصل طبقا لأحكام القانون الدولي في النزاعات القانونية التي تنشأ بين الدول، وإحالتها إلى هيئات الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة.
ولماذا لا تطرح القضية على أنها حقوق إنسان انتهكت أرضه، وشُرد من وطنه، وسُلبت موارده النفطية والطبيعية والبشرية.
ما من شك أن أعظم المصائب في السنوات الأخيرة هي التي حلت بالعراق وسوريا وليبيا، إذ ترعرع الرعب على حدودها، وفي صميم ذاتها المكسورة، ودُفنت حضارتها بمعول بلير وبوش اللذين نحتا به صخور العراق إلى أن أجهزوا عليها بالكامل.
وهذا بدوره سمح للجماعات المتطرفة بتوسيع نطاق عملياتها، وفرض وجودها في المنطقة، لذا أهيب بالمجتمع الدولي أن ينصف دول الشرق الأوسط من النظام الاستبدادي والاستعماري المبطن، وهشاشة القرارات التي التأمت من أجلها مئات المؤتمرات واللقاءات، وكانت نتيجة هذه القمم مخيبة للآمال وللشعوب، ولم تكن النتائج سوى نظام بوليسي يرفع الأسوار تفاديا لهروب أحدهم من السجون.
إن الحياة اليوم تحتاج إلى مشهد جديد غير مخادع، فقد مللنا مشاهدة زيارة السجون، وتوزيع الطعام على المساجين، وتفقد أحوالهم كلفتة إنسانية. وفي اليوم ذاته، وبعد حلول الظلام، تُضرم النيران فيه، ويقضي عليهم، ثم تتبنى العصابات والميليشيات المأجورة الحادث، وتكشف الأيام سرًا مخيفًا يسرده أحد القادة السابقين، ثم يحول نشاطه المالي والتجاري إلى أعمال خيرية تشي ببعض من ندمه، ذلك الندم الذي أهلك دولة، وطمس هويتها العربية، وجعلها تحت هيمنة فارسية.
* كاتبة سعودية