إميل أمين
كاتب مصري
TT

هيلاري ـ ترامب.. حصاد المناظرة

من الفائز في المناظرة الأولى التي جرت بين المرشحين للرئاسة الأميركية؟ الديمقراطية هيلاري كلينتون أم الجمهوري دونالد ترامب؟
قد يكون من المبكر الجواب الشافي الوافي، غير أن النتائج الأولية تقول إن هيلاري حسنت موقعها وحصّنت موضعها، في السباق الرئاسي المثير، لكن الفوز الساحق الماحق على ترامب لم يتحقق لها بعد، وإن بدت خبيرة بشؤون العالم الخارجي أكثر بكثير من ترامب، قليل الحظ بشؤون الكون وأحاجي الإنسان.
المناظرات الانتخابية منذ بدئها عام 1963، بين ريتشارد نيكسون وجون كيندي، لم تنشأ من أجل كسب مزيد من الناخبين إلى أي من المرشحين، والناخبون هنا هم الذين استقرت آراؤهم وحسمت اختياراتهم، بل يعمد المرشحان عادة إلى كسب أصوات المترددين، وهؤلاء غالبًا ما يكون لديهم مفتاح الحسم والحزم بالنسبة لمن سيصل إلى البيت الأبيض.
قبل المناظرة الأخيرة كانت تلك الشريحة من الناخبين الأميركيين تصل إلى 9 في المائة، وهي نسبة عالية جدًا هذه المرة، ربما لأن أيًا من المرشحين لا يحوز على جاذبية بيل كلينتون، أو يمتلك كاريزما باراك أوباما.
استطلاع سريع أجرته شبكة CNN الإخبارية الأميركية أفاد بأن 34 في المائة من تلك الشريحة ذهبوا بعد المناظرة لتأييد هيلاري، فيما 18 في المائة فضلوا ترامب، وهذا يعني أن هيلاري قدمت طرحًا ورؤية أفضل، حتى إن اعتبر البعض ثباتها الانفعالي مغاليا فيه.
الخبرة السياسية لهيلاري بلا شك لعبت دورها، في مواجهة ترامب عديم الصلة، ومنبتها بالحياة العامة داخليًا وخارجيًا، لقد قدمت هيلاري تصورات واضحة لعلاقات بلادها مع العالم الخارجي، سواء اتفقنا أو افترقنا مع أو عن تلك الرؤى، كما الحال في تبريرها للاتفاق النووي الإيراني، وقد يكون ترامب محقًا في انتقاده، لكن الأميركيين أخذوا عليه أن ليس لديه طرح مغاير أو رؤية سياسية مختلفة، وبقيت خطوطه للسياسة الخارجية الأميركية مثيرة للجدل، بل وربما للرفض من قطاع واسع من الأميركيين، جمهوريين وديمقراطيين، على حد سواء.
تحدث ترامب عن أميركا بوصفها «جابي ضرائب العالم»، وعنده أنه ما دامت تشارك بأكبر نسبة مالية في ميزانية «الناتو»، لهذا يتوجب على دول العالم التي تقوم واشنطن بحمايتها أن تدفع في المقابل، وهذا طرح منافٍ ومجافٍ لفكرة أميركا «المدينة فوق جبل» التي تشع بأنوار الديمقراطية وتتلألأ فيها حقوق الإنسان والحريات.
طرحت هيلاري في إقدام واضح معالم لأميركا المستقبل، التي يقضي واقع حال العالم مشاركتها وعدم إحجامها عن الخوض في غمار الخلافات الدولية، في حين مال ترامب إلى أفكار الانعزالية، والعودة للتمترس وراء المحيطين؛ الأطلنطي شرقًا والهادئ غربًا، وفي هذا تناقض واضح وفاضح مع فكرة أميركا القوية والعظمى التي ينادي بها حول العالم.
يلفت النظر أن هيلاري تدربت جيدًا، واستعانت بأطباء نفسيين استطاعوا إخراج «الغودزيلا» من داخل عقل ترامب، ولهذا وقع في فخ استدرجته إليه هيلاري، مقاطعًا إياها عدة مرات، ومهاجمًا مرات أخرى، لا سيما في ميادين لها فيها قصب السبق كما يقال.
أجادت هيلاري حين أشارت إلى خبرتها الدولية، وعلاقاتها مع رؤساء وزعماء العالم، وآلاف الأميال التي طارتها، وجميعها يجعل منها امرأة قوية قادرة على لعب دور مهم في قيادة البلاد، وما تقدم نقاط جوهرية يفتقدها ترامب.
على الجانب الآخر، بدا ترامب قويًا في رؤاه الاقتصادية، فهو كرجل أعمال ناجح يجيد لغة الأرقام والحسابات، وقد قرع كلينتون مذكرًا إياها بإخفاقات إدارة أوباما الاقتصادية والمبالغ التي أهدرت، لا سيما في الشرق الأوسط بحجة وزعم نشر الديمقراطيات، وإن كانت هي بدورها قد شككت في نزاهته المالية.
أسوأ ما في المشهد عند هيلاري وترامب، لغة المساومات التي تبين حالة اللعبة السياسية وتدينها، فهيلاري تطالبه بكشوفات ضريبية، وهو يطالبها بإماطة اللثام عما تسرب وما لم يتسرب من وثائق عبر بريدها الإلكتروني، ليكتشف المشاهد الأميركي، ربما أنه أمام مرشحين كلاهما أعرج، وخيارين أحلاهما مر.
الأمر المثير أن ترامب لم يتوقف كثيرًا عن الحالة الصحية لهيلاري، وعليه يتساءل المتسائلون: هل الأمر ارتفاع أخلاقي عن إشكاليات الطبيعة البشرية؟ أم أن ترامب يبقي تلك الورقة جاهزة ليطرحها على مائدة المناظرة المقبلة أو التي تليها؟ لا سيما أن هناك الجديد والمثير، من عينة الأوراق المهمة التي تركتها هيلاري خلفها نسيًا منسيًا في أحد فنادق موسكو، الأمر الذي يعد كارثة، ويعيد التذكير بما يروج له البعض من أنها مصابة بحالة من حالات «الخرف الوعائي» في المخ.
وضعت هيلاري، ترامب في مأزق، حينما أظهرت عنصريته، لا في التعاطي مع العرب والمسلمين فحسب، بل مع بعض من الأميركيين اللاتينيين، غير أنها لم تقدم الوصفة الناجعة والسحرية لإعادة أميركا «بوتقة انصهار»، من جديد، لا سيما بعد تصاعد المواجهات بين الأميركيين الأفارقة، ورجالات الشرطة، كما لم يقدر لها أن تطرح رؤية لإشكالية حمل السلاح، المتجذرة في النفس الأميركية التي يكفلها الدستور للمواطنين.
أغلب الظن أن المناظرتين التاليتين ستشهدان تفجير ملفات أعمق وأخطر، وأن المناظرة الأولى كانت جس نبض وقياس ردات فعل، لكن وفي كل الأحوال، تبقى النتيجة المؤكدة أن قيصرًا أميركيًا جديدًا لن يدخل البيت الأبيض، فكلاهما لا يحوز على السمات اللازمة للإمبراطور الأميركي المنتظر، وخصوصًا في حالة الفوضى العالمية الآنية.