سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

قطار بكين

مع افتتاح «غوتهارد بيز» أطول وأعمق نفق في العالم، بعد 17 سنة من النحت في صخور الألب العصية، و9 استفتاءات شعبية، لجعل المواطنين شركاء في القرار والتمويل الذي وصل إلى ما يقارب 11 مليار يورو، نجحت سويسرا في ربط شمال أوروبا بجنوبها، والتغلب على قسوة الطبيعة وجبروتها. وقبلها كان نفق «المانش» الذي حوّل بريطانيا من جزيرة في البحر إلى دولة موصولة باليابسة الأوروبية، وكسر عزلتها الجغرافية. مشاريع ضخمة تحتاج إلى تخطيط وإصرار وتقنيات عالية، وتأييد شعبي، وفهم عميق لدورها في تحويل نمط حياة الناس والتأثير في مستقبل الأجيال الجديدة. لكن أوروبا التي تشقى لشق عباب البحار وخرق الجبال بأنفاقها وجسورها، لردم المسافات بين سكانها، صارت مضطرة، في الوقت نفسه، إلى رفع السدود وإعادة الجدران إلى بعض حدودها. بنت المجر لحماية نفسها من اللاجئين الفارين من جحيم الحروب والعوز حائطًا بطول النفق السويسري الجديد ليفصلها عن صربيا، وآخر غيره ليحميها من الآتين من كرواتيا، ومثلها فعلت النمسا لتكبح جماح الهاجمين من إيطاليا. وشيدت النرويج سورًا حديديًا لوقف زحف القادمين من روسيا، بعد أن وصل إليها أكثر من 5 آلاف لاجئ، غالبيتهم من السوريين، خلال عام واحد فقط.
أبدعت أوروبا، تقنيًا، في بناء كيان اجتماعي وسياسي مغرٍ، يسيِّل لعاب كل التواقين إلى الوحدة والتآخي، وأخطأت إلى حد فادح حين اعتبرت أن بمقدورها جعل أراضيها جنة غناء، فيما يموت جيرانها على أبوابها جوعًا وهلعًا.
لا يكفي أوروبا أن تنشر سفنها في المتوسط، وتأتي بكاميرات تلفزيونية لتصور رجالها وهم ينقذون الهاربين من جهنم الضفة الأخرى، كي تنقذ صورتها بوصفها حامية لحقوق الإنسان، وترفع المسؤولية عن كاهلها. لا يليق بأوروبا التي بنت مجدها الاستعماري على نظرية مساعدة الأضعف وإعانة الأقل تطورًا، أن تستخدم جيرانها حين تحتاج إلى ذلك، ثم تغلق أبوابها في وجههم لحظة يحلو لها.
ثمة قصور في العين التي رسمت الاتحاد من وجهة نظر استعمارية أنانية لا تكاملية إنسانية مع المحيط. سيصعب على الأوروبيين التراجع عن نهجهم. صحيح أن دود المنطقة العربية منها وفيها، لكن أوروبا لم تكن بريئة ولا حيادية، من قبل وعد بلفور وحتى لحظة التغاضي عن إرهابييها وهم يغادرونها، زرافات ووحدانا، إلى سوريا.
تستغل الصين، ومعها دول «البريكس»، تنامي العثرات الأوروبية وتخلي أميركا عن جزء من دورها في العالم، لتملأ الفراغ، بمشروع قائم على فكرة النهوض معًا، بدل مبدأ «أنا أو لا أحد».
عالم جديد يتشكل من الشرق الأقصى، ويمتد على مدى آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية.
«طريق الحرير الجديد» الذي أطلقته الصين، وكأنها تغرينا بقوافلها الحالمة القديمة، تسمية رومانسية لمشروع جهنمي تمددي ساحق، قوامه تشبيك تجاري، من خلال قطارات عابرة للقارات.
ليس بريئًا أن تخصص الصين نصف استثماراتها في البنى التحتية لسكك الحديد الداخلية وحدها. ليس صدفة أن إيران باتت تولي مشاريع القطارات التي تربطها بتركيا وحتى تركمانستان وشرقًا باتجاه باكستان، عناية خاصة جدًا. وهناك خطة أخرى لربط باكستان ببحر عمان.
مشاريع كثيرة حول العالم، بتكلفة خيالية، منها ما بدأت الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس العمل بها، وغيرها قيد الدرس أو الانتظار. 30 مليار دولار لتمويل سكة حديد تربط ريو دي جانيرو بشواطئ بيرو، أي أنها تصل الساحل الأطلنطي بالساحل الباسيفيكي. وهو ما يسمح للبرازيل بأن تصدر وتستورد من الصين دون المرور بقناة بنما.
الحلم الصيني يمر من إيران، ويعبر المنطقة العربية، ولا يوفر وسط أفريقيا. التركيز على نيجيريا كبير جدًا، والاستثمارات في المواصلات هناك بلغت 12 مليار دولار.
سيكون مأساويًا حقًا، لكل العرب، أن تحاك حولهم هذه الشبكة الأخطبوطية من السكك الحديدية التي تسمح لمحيطهم بالتبادل والسفر والاستثمار والانتعاش، فيما هم منشغلون بتحرير زقاق هنا، ودهليز هناك، من أيدي بعضهم. باستثناء مشاريع داخلية في دول مثل السعودية والإمارات وقطر، يعيش العرب مقطعي الأوصال، ساعين بأيديهم إلى مزيد من الشتات والتشرذم.
نجحت سويسرا في أن توفر على الأوروبيين أيامًا لقطع جبال الألب، وصار بمقدورهم اجتيازها في 17 دقيقة، بينما أصبح الطريق من دمشق إلى بيروت يكلف، أحيانًا، عمرًا بأكمله، رغم أن قطارًا عاديًا، لو وجد، يقطعها بساعة ونصف الساعة.
حرب شق الأنفاق، وتشييد الجسور، وتمديد أنابيب النفط، وسكك الحديد، على أشدها، بين الدول التي تبحث لأبنائها عن دور على وجه البسيطة. أوروبا تبدو هزيلة رغم مشاريعها الضخمة، لأنها اختارت الانطواء والاكتفاء بذاتها، طاردة شبح الفقر الخارجي بعيدًا عن حساباتها. الصين مع مليار و300 مليون بشري، تعلم أنها تحتاج إلى موارد الدنيا أجمع لسد حاجاتها، وأسواق لا حدود لها لبيع نتاجاتها.
الحلم الصيني كبير بحجم المعمورة، والطموح الأوروبي لم يعد يتجاوز قارة.
هل تتضارب الطموحات، أم ستجد وسيلتها للتكامل والتصالح؟ السنوات المقبلة حارة وملتهبة، وعلى العرب أن يتوقفوا عن اللهو الحارق، ليدخلوا السباق قبل أن يفوتهم قطار بكين هذه المرة.