سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

كان المنفى أكثر رحمة

بعد ربع قرن في المنفى عاد كامل شياع إلى بغداد على أثر سقوط نظام صدام حسين، متفائلاً بأن الحرية التي طالما حلم بها، أصبحت في متناول الناس. وعمل في الحكم الجديد إلى جانب ثلاثة من وزراء الثقافة. لكنه ما لبث أن اكتشف أنه يعيش مثل سائر مواطنيه، في كابوس رهيب، فكتب إلى جريدة «إيلاف» يصف حاله: «... بجانب التجربة الفعلية والتاريخ الحي، وضعتني العودة وجهًا لوجه أمام موت وشيك جارف وعبثي. لا أعني هنا، بالطبع، أفكارًا أو أخيلة أو هواجس تستبق حدث الموت الرهيب، بل حقائق ملموسة يمتزج فيها الموت بالحياة ويتلازمان في كل لحظة. الموت في بغداد يسعى إلى الناس مع كل خطوة يخطونها، فيما تتواصل الحياة مذعورة منه أحيانًا، ولا مبالية إزاءه في أغلب الأحيان. ما أكثر لافتات الموت السوداء في المدينة. كم من الناس واسيت بفقدان أب أو ابن أو أخ أو قريب. كم مرة قصدت مجالس التأبين معزيًا. كم بكيتُ في سري حزنًا على مشاهد الدماء المسفوكة في كل مكان.
بعد هذا الانغمار المكثف في وقائع الموت وأخباره، يسألني البعض أحيانًا: ألا تخاف من الموت؟ فأجيب: أنا الوافد أخيرًا إلى دوامة العنف المستشري، أعلم أنني قد أكون هدفًا لقتلة لا أعرفهم، ولا أظنهم يبغون ثأرًا شخصيًا مني. وأعلم أنني أخشى بغريزتي الإنسانية لحظة الموت حين تأتي بالطريقة الشنيعة التي تأتي بها. وأعلم قبل ذلك كله أنني كثير القلق على مصير أخي ومرافقي، الذين بملازمتهم لي في سكوني وحركتي، يجازفون بحياتهم وحياة عوائلهم. رغم ذلك كله، ومقدار ما يتعلق بمصيري الشخصي، أجد نفسي مطمئنًا عادة لأنني حين وطأت هذا البلد الحزين، سلمت نفسي لحكم القدر بقناعة ورضا. وما فعلت ذلك كما يفعل أي انتحاري يسعى إلى حتفه في هذا العالم، وثوابه الموعود في العالم الآخر. فالقضية بالنسبة إليّ تعني الحياة، وليس الموت.
العودة من المنفى في حالتي سبب عاطفي أكيد. إذ وجدت نفسي في علاقة لا أقوى على استبدالها أو تعويضها. إنها العلاقة مع الوطن كمجموعة من البشر والتقاليد والأمكنة.. كفضاء من ضوء وهواء، من فوضى وخراب وألم.. لكنني لا أزال أشك في أن حب الوطن من صنف الفضائل».
كتب كامل شياع هذه الوجدانية المطولة بعد عامين من عودته. عام 2008 اغتاله المجهول الذي كان يخشاه، ولم يستطع أحد، بالتأكيد، التعرف إليه أو إلى دوافع القتل. وبقيت من شياع هذه المرثية الذاتية المسبقة. ولمن يرغب في قراءتها كاملة، فهي في الكتاب الأنيس الذي أصدرته «إيلاف» بمناسبة 15 عامًا على صدورها تحت عنوان «المختار من إيلاف: كتابة على هواء طليق». فكر طليق أيضًا.