صالح القلاب
كاتب أردني. وزير إعلام ووزير ثقافة ووزير دولة سابق، وعضو سابق في مجلس أمناء المجموعة السّعوديّة للأبحاث والتّسويق.
TT

روسيا وتركيا وإيران: رؤوس مؤتلفة وقلوب مختلفة!!

غير مستغرب أن تؤدي ارتدادات الزلازل التي ضربت هذه المنطقة، في هذا الإقليم، في الفترة الأخيرة، وآخرها الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا، إلى هذا الاصطفاف الثلاثي، الذي لا يزال كلاميًا ولم يتخذ أي وضع إجرائي فعلي حتى الآن، بين تركيا وروسيا وإيران، فكل واحدة من هذه الدول الثلاث أصبحت معنية في ضوء مستجداتها الأخيرة وفي ضوء متطلباتها الطارئة والقديمة بالانضواء في إطار تحالف أو تآلف إقليمي، حتى وإنْ شكليًا، حتى وإنْ بقيت بعض الخلافات المتجذرة وبعض المصالح المتضاربة مستمرة وعلى ما هي عليه.
إنه لا يمكن في ضوء ارتباطات كل واحدة من هذه الدول الثلاث دوليًا وإقليميًا وفي ضوء تضارب المصالح استراتيجيًا وتكتيكيًا بين كل واحدة منها والأخرى، أن يكون هناك حلف أو تحالف إقليمي فعلي بين روسيا وتركيا وإيران، فأكثر ما هو متوقع هو «احتواء» الخلافات الراهنة وتجميدها، وهو سعي كل واحدة منها إلى الاستفادة من عامل الوقت لمعالجة، ولو مشكلة واحدة من مشكلاتها الضاغطة - الكثيرة.
قبل محاولة الانقلاب الفاشلة الأخيرة كانت العلاقات بين تركيا وروسيا قد وصلت إلى ذروة التوتر العسكري والسياسي، وكانت بعض التقديرات قد وصلت، على خلفية إسقاط القاذفة الروسية في تلك الحادثة المعروفة، إلى احتمال اندلاع مواجهة عسكرية بين هاتين الدولتين اللتين لم تكن علاقاتهما، لا في عهد الاتحاد السوفياتي ولا في عهد روسيا الاتحادية، سمنًا وعسلاً، لكن ما حصل هو أنَّ فلاديمير بوتين فَضَّل، بديلاً لمثل هذه المواجهة المكلفة التي يبدو أنها كانت متعذرة وخيارًا خاطئًا، الإمساك بالرئيس التركي رجب طيب إردوغان من ذراعه التي تؤلمه، وذراعه التي تؤلمه هي «تنشيط» عمليات حزب العمال الكردستاني - التركي الـ«P.K.K» الذي بقي يخوض مع تركيا حرب استنزاف «إرهابية» ولسنوات طويلة.
وهكذا، وبعيدًا عن مستجدات ما بعد الانقلاب العسكري الفاشل، فإن عملية مطار مصطفى كمال (أتاتورك)، مطار إسطنبول، التي كانت دموية ومكلفة والتي تبناها هذا الحزب، حزب العمال الكردستاني - التركي الـ«P.K.K»، قد أقنعت رجب طيب إردوغان بأنَّ تجنب حرب استنزاف مكلفة وطويلة يقتضي التخلي عن كل «كبريائه» ومد جسور تفاهم بين أنقرة وموسكو ووصف عدو الأمس القريب بأنه: «الصديق العزيز»، بلْ والذهاب إلى بطرسبورغ ولقاء «قيصر» روسيا الجديد والتفاهم معه على كل ما يمكن التفاهم عليه وتأجيل نقاط الخلاف إلى أن تصبح هناك إمكانية لاحتوائها والتفاهم عليها، وعلى أساس معادلة «ألا يجوع الذئب وألا تفنى الأغنام».
إنَّ هذه مسألة، وهي المسألة الأساسية، أما المسألة الأخرى فهي أن رجب طيب إردوغان، الذي ذاق الأمرين في التعامل مع هذه الإدارة الأميركية البائسة وفي التعامل أيضًا مع الدول الأوروبية التي من المفترض أن تركيا ترتبط بها من خلال عضوية حلف شمال الأطلسي، قد بادر إلى فتح صفحة جديدة مع روسيا قائمة على العلاقات الحسنة والمصالح المشتركة من أجل إفهام الأميركيين والأوروبيين بأن بإمكانه استبدال خياراته معهم والتوجه إلى الشرق بدل توجه بلاده وعلى مدى نحو قرن بأكمله نحو الغرب، وذلك دون أن يمس ولو بمجرد التلويح ببقاء أنقرة عضوًا في الـ«ناتو» وعدم خروجها منه.
وهنا فإن الثابت بالنسبة لهذه المسألة أنَّ أي رئيس تركي، رجب طيب إردوغان أو غيره، لا يستطيع مس عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي مهما تطورت علاقات بلاده مع عدو الأمس روسيا الاتحادية، كما أنه لا يستطيع إدارة ظهره كاملاً للاتحاد الأوروبي طالما أن هذا «الصديق العزيز» الذي هو فلاديمير بوتين، أولاً: لا يمكن الاطمئنان إليه ووضع كل بيض الدولة التركية في سلته، وثانيًا: أن الروس لا يمكن أن يكونوا بديلاً للأوروبيين لا اقتصاديًا ولا سياسيًا ولا بالنسبة للصراعات الإقليمية التي ستبقى محتدمة في هذه المنطقة مهما بلغت العلاقات التركية - الروسية من التقارب والتفاهم وفي معظم المجالات إنْ ليس كلها!!
إنَّ رجب طيب إردوغان، المعروف والمشهور بتغيير مواقفه وسياساته كما يغير ربطات عنقه، لا يمكن أن يطمئن لـ«صديقه العزيز» فلاديمير بوتين مهما ارتفع مستوى العلاقات بين تركيا وروسيا طالما أنَّ حزب العمال الكردستاني - التركي الـ«P.K.K» بقي قائمًا، وطالما أن هذا الـ«صديق العزيز» يسعى لاستعادة مكانة الاتحاد السوفياتي في الشرق الأوسط ومكانة روسيا القيصرية في الإقليم، وطالما أنه لا تزال هناك مسائل وإشكالات عالقة بين الطرفين إنْ في سوريا وإنْ في أوكرانيا ومنطقة القرم.
ثم وإنَّ مثل كل هذه الشكوك وأكثر منها ستبقى تتحكم بمستقبل العلاقات التركية – الإيرانية، حتى إن قام هذا التحالف والتآلف الإقليمي الثلاثي: «الروسي - التركي - الإيراني»، وأصبح حقيقة فعلية، فإيران بالإضافة إلى إشكال الخلاف المذهبي مع تركيا، السنية على المذهب الحنفي، لديها تطلعات تمددية في هذه المنطقة كلها، وهي أصبحت تحتل احتلالاً عسكريًا مباشرًا دولتين مجاورتين للدولة التركية، هما العراق وسوريا وكل هذا بالإضافة إلى تدخلها الشائن في اليمن وفي لبنان ومحاولتها زعزعة الأوضاع الأمنية في بعض دول الخليج العربي الذي تعتبره أنقرة منطقة مصالح حيوية - استراتيجية.
وهذا يعني أنه كما أنَّ تركيا إنْ الآن أو في المستقبل القريب والبعيد لا يمكن أن تقبل بأن تصبح سوريا بوضعها الحالي أو بوضع مستجدٍّ آخر مجالاً حيويًا، عسكريًا وأمنيًا وسياسيًا واقتصاديًا لروسيا الاتحادية، تكون قاعدة حميميم عنوانًا له، إنها - أي تركيا - لن تقبل بأن يصل النفوذ الإيراني الزاحف إلى مواطئ أقدامها وأنها لا يمكن أن تسكت عن كل هذه المتغيرات المذهبية التي تحاول دولة «الولي الفقيه» إحداثها في هذه المنطقة، التي سيبقى الأتراك يعتبرونها منطقة مصالح حيوية تركية إنْ في هذا العهد الذي على رأسه رجب طيب إردوغان أو أي عهد بديل آخر.
إنَّ هذا هو في حقيقة الأمر واقع الحال، ولذلك فإن كل ما يقال عن هذا التحالف الثلاثي، الروسي - التركي - الإيراني، سيبقى كلامًا ليس أكثر طالما أن هناك ثلاثة رؤوس مؤتلفة وثلاثة قلوب مختلفة، وطالما أنَّ الولايات المتحدة ومعها الاتحاد الأوروبي والدول الأوروبية الأخرى كلها لا يمكن أن تسمح بقيام تحالف حقيقي وفعلي بين روسيا الاتحادية وإيران الخمينية، وتركيا العضو المؤسس في حلف شمال الأطلسي، وأيضًا طالما أنَّ العرب بغالبيتهم وبأكثرية دولهم أصبحوا يشعرون أنهم هم المستهدفون بقيام مثل هذا التحالف، الذي إن قام فعلاً فإن مجاله الحيوي سيكون الوطن العربي كله والمنطقة العربية بأسرها!!
إنَّ تركيا، التي أصبحت ظروفها أكثر صعوبة بعد هذا الانقلاب الفاشل، سترتكب خطأ قاتلاً، إن استبدلت بعلاقاتها الواعدة مع أشقائها العرب علاقات ضبابية مع دولتين منافستين، وبخاصة أن المفترض أنها باتت على قناعة مؤكدة بأنها لن تصبح عضوًا في الاتحاد الأوروبي حتى إنْ هي بقيت تقرع أبواب أوروبا لألف عام!