فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

الوثيقة الأميركية.. والسياسات الحربية

في الثلاثين من سبتمبر (أيلول) عام 2011 انطلقت طائرة أميركية من دون طيّار متجهة شمال اليمن، الهدف سيّارة تعبر طريقًا صحراويًا وتقلّ ستة أشخاص، أهمهم شاب نحيل ذو صوت زاعق، تربّى في أميركا وولد في نيومكسيكو، وصفه مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) بأنه «الملهم الروحي» لتنظيم القاعدة (أنور العولقي). مشوارهم القصير الذي أرادوه سريعًا كان هو الحتف، تقصف الطائرة هدفها الأهم ثم تعود. تبقي الطائرات من دون طيّار المآوي الإرهابية في العالم تحت الضغط العالي في الحركة والتنقّل، وتجعلهم يشعرون دومًا بأنهم أهداف محتملة.
في فيلم The Terminator الخيالي لجيمس كاميرون المنتج عام 2008 تدور أحداث متخيّلة لعام 2029، تتسيّد الآلات على الإنسان، ومن ثم يحاول لجمها أو محاربتها، فجأة تبدو آلة دقيقة طائرة بصورتها الباهرة، يعلو الصراخ «يا للهول، إنها الآلات، بدأت تسيطر على العالم».
في السادس من أغسطس (آب) الحالي نشر «الاتحاد الأميركي للحريات المدنية» الوثيقة التي تقع في 18 صفحة وتحمل عنوان «تعليمات للسياسة الرئاسية»، تنص الوثيقة على أن «أي إجراءات، بما فيها المتعلقة بأهداف إرهابية محددة، يجب أن تكون انتقائية ودقيقة قدر الإمكان». نقاش كبير يجري حول دور الطائرات العسكري ومدى ارتباطها بالمخاطر على المدنيين، كما يمتدّ الجدل إلى موضوعات تتعلق بالقيم والأساليب التي يمكن أن يواجه بها الإرهاب، بينما تصرّ الولايات المتحدة على جدوى هذه الطائرات بوصفها الأكثر براعة ونجاحًا وأمنًا في ملاحقة المتطرفين في كل أنحاء العالم، عشرة آلاف طائرة أميركية استطاعت قتل 70 في المائة من الإرهابيين في مختلف أصقاع الأرض.
لدى مايكل بويل، وهو المتخصص بمجال العنف السياسي والإرهاب، أطروحة مهمة بعنوان: «تكاليف حرب الطائرات من دون طيّار ونتائجها» يناقش فيها مستوى الفعالية لهذه الآلة بالحرب على الإرهاب، فعلى سبيل المثال هذه الطائرات جعلت مناطق مثل المناطق القبلية الخاضعة للإدارة الاتحادية في باكستان غير آمنة، وبسببها تقلّص مستوى اللوذ بها من قبل الإرهابيين، وفي نتيجة بحثه يعتبر «الفرصة التي أتيحت للرئيس أوباما في فترة ولايته الثانية فرصة لقلب الاتجاه وإحلال سياسة جديدة للطائرات من دون طيار تخفف من هذه التكاليف، وتتفادى بعض العواقب الطويلة الأمد الناجمة عنها. إن من شأن منهجٍ أميركي معقول أن يفرض بعض القيود على استخدامها من أجل الحد من التكاليف السياسية والعواقب الاستراتيجية طويلة الأمد». خطوة واحدة يراها الباحث ضرورية تتمثّل في استخدام هذه الطائرات لضرب الشخصيات القيادية والعمليّاتية، مع تقليل ضرب الجنود المشاة أو إلغائه.
بالطبع ذلك الجدل حيوي ومرن في الأوساط البحثية الأميركية، والوثيقة التي كشفت مؤخرًا توضّح مستوى حضوره. لا خلاف على ضرورة قتل أي إرهابي في العالم ضمن أي وسيلة معيّنة لا تضر بالمدنيين، الفكرة الأساسية هنا كيف يمكن للولايات المتحدة بعد تجربتها الطويلة مع هذه الطائرات سواء في حروبها الدولية أو حربها على الإرهاب أن تحسّن من مستوى استخدام هذه التقنية التي تتنافس الدول على اقتنائها، إذ بلغ عدد الدول المتطلّعة لامتلاك هذه التقنية أكثر من 76 دولة في عام 2012.
ثمة طروح آخر يتناول إمكانية وصول هذه التقنية إلى أيدي الإرهابيين، يقول ربيع يحيى في كتابه المهم «الطائرات من دون طيّار.. الهيمنة الأميركية الإسرائيلية والقوى الصاعدة»: «تتطلّع التنظيمات الإرهابية إلى امتلاكها لغرض استهداف مناطق مكتظّة بالسكان، أو تجمّعات جماهيرية، خاصة في المدن وفي ساعات الذروة، وهو ما يحقق هدفين للتنظيمات المتطرّفة؛ أولهما: سقوط عدد كبير من الضحايا، وثانيهما: نشر حالة الذعر والفوضى».
تحقق الطائرات فعالية لا يمكن لآلة أخرى أن تقوم بها في الحرب على الإرهاب، فقد استخدمتها الولايات المتحدة في أفغانستان، والعراق، وباكستان، واليمن، والصومال، وليبيا، وقطاع غزة، وقد استثمرت أكثر من 1.4 مليار دولار في تطوير قاعدة كامب ليمونييه في جيبوتي، وذلك لاستخدامها منطلقًا للطائرات من دون طيار، وتشير الأرقام إلى مقتل ثلاثة آلاف شخص بهذه الطائرات فقط خلال العقد الماضي. مهام الاستطلاع والتعقب ومطاردة المطلوبين اللائذين إلى مناطق فوضوية أو غير مستقرة ومدججة بالمدنيين لا تزال أساس الفعالية التي على أساسها تطوّر الدول الأوروبية وإسرائيل والولايات المتحدة هذه الطائرات، ومع التطوير العسكري والتقني يتصاعد النقاش حول الحدود والأخلاقيات المرتبطة بها، وأسس قواعد الاشتباك المسموح بها، والتاريخ يحدّثنا عن دور سقوط طائرة من دون طيّار داخل إيران في تطوير الأخيرة لهذا السلاح، والتمدد الذي تتخذه الطائرة في العالم يمكنه أن يصل يومًا ما إلى أيدي الإرهابيين، وقد يكون مستوى الاعتماد عليها كليًا في مناطق النزاع مرتبطا بتطوّرها التقني الذي يقلل من أخطار سقوطها، ذلك أن مستوى الذكاء في حركة الطائرة لا يزال غير عالٍ، بحسب المتخصصين، ويمكن أن تطوّر تكنولوجيًا لتتخذ من بعد قراراتها بنفسها، وهذه المشاريع ممولة أميركيًا لتطوير فعاليتها وذكائها.
لا يمكن نقاش مدى أخلاقية ملاحقة الإرهابيين عبر هذه التقنية، هذا لا يناقشه أحد تقريبًا، بل الصراع على مدى الدقة التي تصيبها وحول أرقام الضحايا المدنيين، وضرورة وضع قوانين وقواعد ينبغي على الحكومة اتباعها عند تنفيذ هجمات ضد أهداف محددة.
تلعب الطائرات هذه دورها في جعل العالم أكثر أمنًا، سيتطوّر قانونها وذكاؤها، لكنها بلا شك العدوّ الأبرز للإرهاب في كل أنحاء العالم.