عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

«الأبلة الناظرة» تيريزا ماي

أول أسبوع في الوزارة لرئيسة الحكومة الجديدة تيريزا ماي عاد بذاكرتي إلى سنوات الصبا في نهاية الحرب العالمية الثانية.
كانت الثقافة الاجتماعية، سواء في بريطانيا أو مصر، تنظر بتبجيل لشخصيات يضع المجتمع ثقته فيها، كطبيب الحي، والبيه المأمور، ومهندس الري، وطبعًا حضرة ناظر المدرسة و«الأبلة الناظرة».
يرتدي الأب أفضل حلة ويكوي طربوشه ليذهب بـ«إكسسوار» الأفندية (العصا الفضية المقبض، ومنشاة الذباب العاجية)، لمقابلة حضرة الناظر بشأن ولده.
أذكر حالة الطوارئ في بيتنا وغسل الممر، من بوابة الحديقة إلى الباب الأمامي بـ«الفينيك»، ووضع باقات الزهور في المدخل وغرفة الصالون، وتكليف الأسطى فرانكو (الترزي الإيطالي ومساعدته فورتينيه) بإعداد فساتين جديدة، وخبز حلويات واستحضار المشروبات، استعدادًا لزيارة إيفون هانم لتناول شاي بعد الظهر مع أمي.
كانت إيفون فرنسية ومصّرها أولياء الأمور بألقاب كـ«هانم» و«الأبلة الناظرة» في مدرسة شقيقتي. الأبلة الناظرة مرتبة سامية في مجتمع الخمسينات (انتهى زمن الاحترام باحتضار كل شيء جميل في بلد لم يعد له وجود إلا في صفحات الكتب، وأفلام الأبيض والأسود، وذكريات جيل خرج أطفاله على المعاش). احترام الخمسينات لا يزال موجودًا في مدارس الريف الإنجليزي، خصوصًا المدارس الداخلية الخاصة. التلاميذ يقفون للمعلم (قال الشاعر: قم للمعلم وفه التبجيلا.. كاد المعلم أن يكون رسولا) وينادونه بلقب «سير»، وتعاقب التلميذة إذا كان «اليونيفورم» غير مهندم أو تصفيفة شعرها توحي بتمرد أو خروج عن الأدب.
ذكرتني رئيسة الوزراء المسز ماي بصرامة المدام إيفون وإحساسها بالمسؤولية، بدرجة تخيف مرؤوسيها رغم جمالها وأناقتها، ذكرتني بجيل أمي وعمتي، والمسز ثاتشر، وسيدات بمستوى الأناقة والثقة الاجتماعية (نفسها سواء في الإسكندرية أو روما أو باريس أو لندن، فلم يكن هناك فارق يلحظ في السلوك أو الأناقة أو المعمار) نافسن نجمات هوليوود في الأناقة، والإتيكيت الاجتماعي والذوق والجمال، رغم تقشف سنوات الحرب العالمية الثانية وبعدها، تقشف جعلهن في صلابة رجالهن الغائبين في ميدان القتال.
على مسمع من الصحافيين في أول لقاء للمجلس، قالت المسز ماي لوزرائها: «منصب الوزير ليس هزارًا، بل مسؤولية ضخمة. نحن عاملون عند من انتخبونا للمهمة، ولن نخيب آمالهم بالتهاون في العمل». (جميع الوزراء في النظام البرلماني نواب منتخبون). جلس بجوارها عمدة لندن السابق بوريس جونسون، وهو شخصية محبوبة عالميًا، لكنه صاحب نكتة وروح دعابة، فلا يأخذه الكثيرون على محمل الجد، ويبدو أنه كان المقصود من الكلام، بعد أن عينته في منصب وزير الخارجية والكومنولث، ثالث أخطر منصب في بريطانيا (رئيس الحكومة، فوزير المالية، فالخارجية).
اليسار البريطاني (أكثر انعزالاً عن هموم المواطن البسيط وابتعادًا عن الطبقة العاملة التي يدعي تمثيله لها من مثقفي اليسار العربي) يشن حملة هجوم عنيفة على جونسون، منذرًا بأنه سيجعل من السياسة الخارجية مهزلة (كل تنبؤات اليسار البريطاني سواء عن انتخابات العام الماضي، أو استفتاء الاتحاد الأوروبي، كانت مضحكة في دقتها كتنبؤات الطقس على شفاه حسناوات الأرصاد الجوية التلفزيونياتية، وعيون المشاهدين تركز على ارتفاع أو انخفاض درجة حرارة الفستان وتغير اتجاه تسريحة الشعر).
في تقييمي للأسبوع الأول للمسز ماي، أن اختيارها جونسون للخارجية يعكس واقعية جيل أمها (سيدة متدينة ابنة شاويش في الجيش متزوجة من قسيس سميا ابنتهما باسم القديسة تيريزا، وشبت محافظة متمسكة بقيم الفترة). البلاد في حاجة ماسة لعقود تجارية واستثمارات أكثر منها لمعاهدات استراتيجية سياسية. بوريس يعرفه الجميع من عرب وعجم، أفارقة وهنود، آسيويين وأميركيين، ينجح بروحه المرحة في تحبيب الغرباء فيه ويبيع المنتجات البريطانية بمهارة. كعمدة لندن نجح في رحلاته الشخصية بالروح المرحة والدعابة نفسها في جذب بلايين الجنيهات استثمارات في مجال العقار والمال والإنشاءات، من الخليج والصين وأموال الروس إلى مشاريع في لندن.
مسز ماي لم تعبأ بهجوم اليسار وشبه إجماع الصحافة انتقادًا، واختارت الرجل المناسب للمهمة المناسبة، وكذلك وزيرين (من زعماء حملة مغادرة الاتحاد الأوروبي) ديفيد دافيز (نافس كاميرون على زعامة الحزب 2004) ووزير الدفاع السابق الدكتور مايكل فوكس، لوزارتين جديدتين؛ «الانفصال عن الاتحاد الأوروبي» ووزارة التجارة الخارجية.. كذلك ألغت وزارة الطاقة والتغيير المناخي، لأن الأخيرة كانت بكل المقاييس إهدارًا لأموال دافع الضرائب في مشروع «فيل أبيض» هو فانتازيا الطاقة الخضراء. أدمجت ماي الطاقة في وزارة الصناعة التي أنشأت فيها قسم «استراتيجية التصنيع». أي العودة للإنتاج والتجارة وجذب الاستثمار.
الأعين كلها راقبت أول أداء للمسز ماي في الاستجواب الأسبوعي ظهر الأربعاء في مجلس العموم والمنازلة الجدلية مع زعيم المعارضة.
أصعب امتحان يواجه رئيس الوزراء تقليديًا كل أسبوع، فما بالك بأول مصارعة بلاغية برلمانية لرئيسة الحكومة؟
أبلت بلاءً حسنًا، «ومسحت أرض المجلس» بزعيم المعارضة (في قول «الاسبكتاتور» العريقة)، لم تستخدم أسلوب وتعبيرات معلمة الفصل أو ناظرة المدرسة لتعنيف تلميذ بليد مع زعيم المعارضة فحسب، بل لغة جسدها كانت تذكيرًا بمشهد السيدة ثاتشر في المكان نفسه قبل 35 عامًا.
أداء رئيس الحكومة في مواجهة الأربعاء في الرد على الأسئلة البرلمانية هو مفتاح الصحافة لتحليل سياسته الحالية.
الصحافة العربية والشبكات التلفزيونية، سواء «بي بي سي» العربية أو الشبكات الأخرى، لم تفرد حتى بضع دقائق لتحليل أداء رئيسة الحكومة التي قلدت فيها ثاتشر. ويعلم الله لماذا يصدعنا الصحافيون العرب بالمواعظ عن الديمقراطية ولا يذكرون كلمة عن مواجهة تعتبر أوج الأسبوع السياسي في أم البرلمانات؟
رحلتا المسز ماي إلى برلين وباريس في أقل من 24 ساعة كانت تذكيرًا بـ«غزوات» ثاتشر لعواصم أوروبا، عندما كانت السيدة الحديدية الوحيدة بين رجال اعتلاهم الصدأ. كانت ماي ندًا للزعيمة الألمانية أنجيلا ميركل التي احترمت تمسكها بحق بريطانيا في تفعيل المادة 50 (بدء إجراءات الطلاق من الاتحاد الأوروبي)، في وقت يناسب لندن في العام الجديد.
المسز ماي معروفة لعقدين بنوع خاص من الأحذية بلون النمر تعرف بأحذية القطة.
استعدادًا للقائها مع الرئيس الفرنسي (وكان أطلق تصريحات غير دبلوماسية تجاه لندن) مساء الخميس، ارتدت حذاء حريميًا تقليديًا بكعب عالٍ.
في قصر الإليزيه بدا واضحًا أن الضيفة هي الأبلة الناظرة الأطول قامة، والمضيف؟ مجرد مدرس قصير..
لغة الجسد لها دلالات رمزية في سياسة الديمقراطيات المنقولة على الهواء والمفتوحة لتفسيرات الصحافة الحرة..
معادلة فهمتها «الأبلة تيريزا» بدهاء ثاتشري.