فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

السعودية وفرنسا... والتعاون التاريخي

بعد جولةٍ مهمة ومدوّية قام بها ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى الولايات المتحدة، يتجه صوب فرنسا حيث العلاقة الاستثنائية والتاريخية مع السعودية، بشكلٍ يختلف عن أي علاقةٍ مع أي دولةٍ أوروبيةٍ أخرى. كان الاعتراف الفرنسي بحكم الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن سبّاقًا في عام 1926، لترسل من بعد قنصلاً مكلّفًا بالأعمال لدى عام 1929، لتتبلور بعدها معاهدة «الجزيرة» بين البلدين عام 1931. وبعد التوحيد التام للبلاد كانت فرنسا من أوائل الدول التي أقامت علاقاتٍ دبلوماسية مع المملكة عبر إنشاء أول بعثة دبلوماسية بجدة 1936، بقيت العلاقة متينة بين البلدين، ويحدث أن تكون معظم الملفات الدولية والإقليمية موضع تفاهم مشترك يصل إلى التطابق عبر عهود شارل ديغول، وفرنسوا ميتران، وجاك شيراك، ونيكولا ساركوزي، واليوم مع فرنسوا هولاند.
مكّنت العلاقة المتينة بين البلدين تشجيع قوى الاعتدال والحرص على حلولٍ أساسية في موضوع فلسطين، وأخذت فرنسا زمام المبادرة لتحجيم ولجم النظام السوري وممارساته في لبنان، فكان الدور الاستثنائي لمعاقبة وملاحقة مرتكبي جرائم الاغتيال بحقّ قوى الاعتدال الفكري والسياسي بلبنان، وأسهمت مع السعودية في بناء المحكمة الدولية لقتلة رفيق الحريري، وأصابت الهدف النهائي حين أيدت حق الشعب السوري في الثورة على النظام السوري، ودعمت المعارضة المعتدلة.
بقيت فرنسا أقرب دولةٍ أوروبية تعنى وتفهم القضايا العربية والإسلامية، وتشجّع قوى الاعتدال السياسية والفكرية بالمنطقة.
لا تزال فرنسا تدعم مؤسساتٍ عربية بحثية ومكتبيّة بغية نشر الأنوار التي أشرقت في فرنسا، مفكر مثل إدغار موران يعتبر العقود التي يعيشها العرب والمسلمون شبيهةً بالقرون المظلمة التي عاشتها أوروبا، وبخاصة فرنسا التي ذاقت ويلات الحروب الأهلية منذ (1562 إلى 1598) حيث حروب ومجازر بين البروتستانت والكاثوليك لم تبقِ ولم تذر. حيث أكلت الحروب الأهلية الفرنسية كل شيء، حتى تطوّرت لحظات نادرة تاريخيًا لترسم خطًا مختلفًا على كل المستويات، وليتحوّل من بعدُ بلد الحروب الدينية الكارثية إلى بلد النضج السياسي، والتطبيق العلماني، والتنوير الفلسفي، والإشعاع الأدبي والفني، لكن جاء ذلك بعد عهودٍ من الحروب والدماء، وأثمانٍ باهضة تكبّدتها المجتمعات المنساقة وراء الأوهام.
وتأتي الزيارة الأميرية لتفتح الملفات التنموية، فقد أيّد الرئيس الفرنسي هولاند «رؤية السعودية 2030»، وبحث الأمير مع الرئيس موضوع التدخلات الإيرانية بالمنطقة، تدخلات سافرة وضحت في اليمن والبحرين حاليًا، هذا فضلاً عن ارتكاب إيران وأذرعتها لمجازر في سوريا والعراق ضد المدنيين، كما أنها تعطّل انتخاب رئيس للبنان، وتدعم «حزب الله» بالصواريخ والسلاح لاستخدامها ضد اللبنانيين بالداخل، كما صرّح أمين الحزب قبل أيام.
وسيرأس الأمير الاجتماع الثالث للجنة المشتركة الفرنسية السعودية، لبحث موضوعاتٍ متعددة منها أوجه التعاون الاقتصادي بين البلدين، حيث تشير الأرقام إلى ارتفاع التبادل التجاري بين البلدين في العقد الأخير، إذ حلّت فرنسا ضمن أهم الشركاء التجاريين مع المملكة خلال العام الماضي بنسبة 2.6 في المائة من إجمالي العلاقات التجارية للمملكة حول العالم. وبحسب «وحدة التقارير الاقتصادية» نشر بعددها رقم (8295) جاءت فرنسا ثامن أهم شريك تجاري للسعودية خلال العام الماضي 2015، حيث أظهرت بيانات الهيئة العامة للإحصاء، إن التبادل التجاري بين البلدين بلغت قيمته 36.3 مليار ريال (9.7 مليار دولار) العام الماضي. وبلغ حجم التبادل التجاري بينهما 373.6 مليار ريال (99.6 مليار دولار) في عشر سنوات، من 2006 حتى 2015، بفائض ميزان تجاري لمصلحة فرنسا، بنحو 40.4 مليار ريال (10.8 مليار دولار) أي يعادل 11 في المائة من التبادل التجاري بين البلدين خلال الفترة نفسها.
وفرنسا تدعم التحالفات التي تقودها السعودية، التحالف العربي في اليمن، والتحالف العسكري والإسلامي لمحاربة الإرهاب، والبلدين يتشاركان في الحرب على «داعش» من خلال التحالف الدولي للحرب على «داعش»، وهي تبارك دائمًا المهمات التي تقوم بها السعودية في حربها على «القاعدة» و«داعش».
والفرنسيون يعلمون خطر «داعش» ولا تزال آثار مجزرة باتكلان المنفّذة من قبل «داعش» في الرابع عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي، ماثلةً في أذهان المجتمع الفرنسي الذي لا يريد تكرارها، فرنسا تستفيد من خبرة السعودية بالحرب على الإرهاب، كما استفادت دول أخرى مثل بريطانيا، وهذا مؤثر وداعم للبلدين في حربهما المعلنة والهجومية على الإرهاب والتنظيمات المتطرفة.
زيارة الأمير محمد بن سلمان هي استكمال للتعاون القائم أصلاً بين البلدين، ولتنشيط للعمل الاقتصادي، وترتيب للملفات السياسية، ومن خلال الزيارة هذه تدخل العلاقة الفرنسية السعودية أفضل مراحلها، والكل يعلم أن وجهة نظر البلدين حول الملفات الإقليمية والدولية موضع تفاهمٍ كبير.
فرنسا حليف تاريخي واستثنائي، وتفاصيل الزيارة الأميرية تبرهن على ذلك.