كتبت في بداية أحداث العنف والإرهاب التي اجتاحت البحرين عام 2011، التي حمل فيها بعض أبناء البحرين السلاح في وجه الدولة وسقط فيها قتلى وإصابات، أن تلك الأحداث لم تكن مفاجئة إلا في توقيتها، إلا أنها كانت متوقعة في سياقها، وأننا ندفع ثمن تساهلنا عن عدم وجود رؤية استراتيجية بحرينية لفرض «الهوية الوطنية» على كل من يحمل جنسيتها، وتركنا للزمن أن يحددها ويلزم المواطنين بها.
وحين وضعت ماكنزي رؤية اقتصادية 2030 لم تفكر أن رؤية «للهوية الوطنية» استراتيجية وشاملة، هي «الرافعة» للرؤية الاقتصادية، وغيابها هو «البلدوزر» الذي يجرفها، والأحداث الأمنية التي جرت في البحرين منذ 2011، لم تكن متوقعة اقتصاديا، فالبحرين كانت مقبلة على طفرة ونهضة إنما جاءت تلك الأحداث، لأن في البحرين ولد جيل أو أكثر مسلوب الدسم الوطني، يدين بالولاء لمرجعيات فارسية لم تنظر له الرؤية الاقتصادية، ومثقفو هذا الجيل وناشطوه السياسيون والحقوقيون وضعوا العهود والاتفاقيات الدولية فوق الدستور والقانون البحريني، فهل هذا جيل يستطيع أن يساعد على البناء وتحقيق رؤية اقتصادية طموحة، هذا جيل ولد خارج نطاق الدولة، رغم أنه لم يغادرها شبرا.
تعاملنا على استحياء مع استحقاقات الهوية الوطنية، فلم نسن قانونا ولم تضع محظورات وعقوبات ولم نشددها على من يعبث أو يسيء إلى دعائم وقواعد الهوية الوطنية، بل تركنا للتفسيرات والاجتهادات الدينية لدى البعض أن تجعل «الوطن» ثانويا يأتي بعد «الأمة» أحيانا، حتى أصبح مغيبا في وعيها.
تأخرنا كثيرا في وضع رؤية استراتيجية شاملة لتعزيز الهوية الوطنية، وترسيخ مفهوم الدولة واستحقاقاتها، رغم أن لدولنا تاريخا تأسيسيا يزيد عن 200 عام، رسمت فيها حدودها ووضعت لها نظامها السياسي، إلا أنه يبدو أن دولنا لم تعِ أن مفهوم الدولة يحتاج إلى أكثر من أجواء احتفالية وكتيب للتربية الوطنية، بل وحتى أكثر من وجود دستور وعقد اجتماعي مكتوب.
تركت الدولة ربما دون أن تدري، الساحة الفكرية للهوية فارغة لمن يريد أن يملأها، وتركت مناطق مغلقة خالية من أي مظاهر لها، وتغاضت عمن يهين رموزها، فقفزت للفراغ جماعات دينية بمرجعياتها الأجنبية تارة والقومية واليسارية تارة والعولمية تارة جديدة، فظهرت لنا أجيال ترنو إما لزعيم للعروبة، أو لمرشد عام أو لآيات فقهية أجنبية، أو ما شابه، وذاب الوطن، فأصبح الإيراني أقرب للشيعي الخليجي من السني الخليجي، وأصبح التركي أقرب للسني من الشيعي، حتى تجرأ جيل بإعلان ولائه لزعامة إيراني قائد للقوات المسلحة الإيرانية، وأرض إيران أقرب إليه من الرياض أو أقرب إليه من الرفاع!!
الاستراتيجية التي لم تنتبه الدولة لوضعها كان يجب أن تكون شاملة تمنع فيها وجود كانتونات مغلقة، وتضع التنوع الديموغرافي للسكان هدفا للتنوع العرقي والمذهبي لا للانغلاق مناطقيا بالمنافذ فينغلق الفكر معها، كان يجب أن تطال التخطيط العمراني، وتفتح مناطق وتفككها بتقاطع الطرق، تبني مدنا جديدة مختلطة، إضافة إلى تطعيم المدن القديمة بسكان من مدن أخرى.
كان يجب أن تشمل الاستراتيجية مهام تكلف بها جميع مؤسسات الدولة وتراقب تطبيقها وتنفيذها، وتضع تشريعات بها عقوبات لمن يعترضها، مناهجنا الوطنية تتجاوز كتيب يحفظ للامتحان، ومؤسساتنا الشبابية وأنديتنا الرياضية تضع تصورا يتجاوز رفع الأعلام وصور القيادة، ووسائلنا الإعلامية تضع مفهوم الوطن حاضرا في الفواصل كما في البرامج، ولكم أن تتخيلوا مسافة التأخر التي مضت على تلك المهام، حين نكتشف أن وسائل إعلامنا تجرأت على عرض مشاهد عناق السني والشيعي كإخوة ومواطنين، يجمعهم وطن واحد عام 2016!!
استراتيجية شاملة لجعل القانون الوطني هو الحكم وهو المرجعية، التي تلزم الجميع بما فيها المرجعيات الدينية به فلا نترك لسلطات تمتد فوق سلطة القانون.
دون هذه الرافعة الاجتماعية ستتهاوى أي رؤية للتحول الاقتصادي، وسنجد أمامنا البلدوزر الاجتماعي يطيح بها وبدعائم الدولة، وها نحن اليوم نعالج أمنيا ما عجزنا عن رعايته وحمايته فكريا.
إن كانت بعض البلدان تتعذر ببعد بعض الأصقاع ونأيها عن الحواضر لغياب الدولة عنها كقانون ونظام وثقافة ووعي، فما هي حجة البحرين التي تقطعها كلها في ساعة، ومع ذلك لدينا مناطق هي دولة داخل الدولة؟
ليست البحرين فحسب من تقاعس عن وضع استراتيجية لترسيخ وتعزيز وتكريس الهوية الوطنية، بل أغلب دولنا أيضا، إما تركتها للزمن أو تركتها نهبا لمن يريد أن يستبيحها، وللتو أفقنا على هول الصدمة، بعد أن حمل أبناؤنا السلاح في وجه هوياتهم قبل أن يحملوها في وجه أوطانهم!!
8:32 دقيقه
TT
رافعة اجتماعية ضرورية
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة