نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

الحاجز الأميركي

أكثر الاستنتاجات الساذجة سذاجة، هو القول بأن الولايات المتحدة بصدد الانسحاب من الشرق الأوسط، وأن اقتتالاً ضاريًا يجري بين قوى دولية وإقليمية، لملء الفراغ الناجم عن هذا الانسحاب.
ذلك.. وحتى لو فكرت إدارة أميركية في تخفيض وتيرة تدخلها أو تعديل برامجها وسياساتها، إلا أن في الشرق الأوسط ذاته ما يدفع قوى فاعلة ومصالح أساسية للإمساك بالثور الأميركي من قرنيه، وإرغامه على العودة إلى العمل بوتيرة أسرع وبتدخل أكثر وضوحًا.
وبين أيدينا مثلان صارخان على ذلك.
الأول.. الأداء الأميركي في سوريا والعراق، وهو أداء ضلل تحليلاتنا لغموضه في بعض الأحيان وتردده في أحيان أخرى، وبطئه على الدوام، إلا أن ما يكشف الحقيقة تمامًا هو الإجابة عن السؤال، هل يمكن بلورة حسم أو حلٍ للوضع في العراق من دون أميركا، وكذلك الأمر في سوريا؟
الثاني.. التسوية الشرق أوسطية الفلسطينية الإسرائيلية، والعربية الإسرائيلية، هنالك حقيقة لا جدال فيها، وهي أن السيد جون كيري فشل في إيجاد حل خلال الفترة التي حددها وهي تسعة أشهر، وفشل كيري حمل الرئيس أوباما على التوبة عن العمل من أجل الحل طيلة ولايته، إلا أن أميركا لم تغير سياساتها بل غيرت واحدًا من مداخل عملها، فتراجعت خطوة إلى الوراء، إلا أنها تشبثت بمكانة الجهة الوحيدة التي تسمح بمرور أو تعطيل أي عمل ينشد حلاً في الشرق الأوسط، ولقد فعلت ذلك في باريس، حين ذهب الوزير كيري إلى هناك ليس من أجل المساعدة بل من أجل التفريغ، وكأنه همس في أذن الفرنسيين مذكرًا إياهم بالحاجز الأميركي الذي لا يسمح ليس لفرنسا وحدها بالمرور وإنما لأوروبا بأكملها، ذلك أيضًا دون التطرق لإسرائيل المتناغمة جملة وتفصيلاً مع أميركا في هذه النقطة بالذات.
وفي مجال المبادرات السياسية التي لا بد أن تتعامل مع الحاجز الأميركي، فبين أيدينا الآن المبادرة المصرية، هذه المبادرة تملك مؤهلات عملية أكثر بكثير مما تملك الفرنسية، فلقد جرى الترحيب الإسرائيلي بها وكذلك الأميركي، ومن أجل التعزيز بوركت روسيًا، ومن نافلة القول إنها مدعومة من معسكر الاعتدال العربي بأكمله.
وأهم مؤهل مصري أن الدولة العربية الرائدة في صنع السلام مع إسرائيل، ليست وسيطًا أجنبيًا كالفرنسي مثلاً، بل هي طرف يملك من أوراق التأثير الكثير لدى الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، ومع كل هذه المؤهلات القوية والنوعية وبالإمكان القول الاستثنائية، إلا أن حاجة المبادرة المصرية إلى قرار أميركي تظل أساسية وجوهرية، والقرار هنا يختلف كثيرًا عن الموقف، وهذا الاختلاف هو الذي كان السبب وراء فشل جون كيري، ذلك أن الرجل تحرك مدعومًا بموقف أميركي وليس بقرار.
منطقيًا تبدو رياح وأمواج البحر الشرق أوسطي مواتية للمصريين أكثر من غيرهم، إلا أن ذلك لا يعني أن السفينة التي لم تصل إلى شواطئها المنشودة على مدى عقود، ستقطع المسافات التي لم تقطع من قبل بسلاسة أو حتى بصعوبات قليلة، بل إن أمامها عملاً كثيرًا وكبيرًا كي تأخذ مسارها، أولهُ زحزحة الموقف الإسرائيلي عن شروطه التعجيزية، وثانيهِ ترتيب البيت الفلسطيني الذي استعصى عليها وعلى غيرها سنوات طويلة، فإن تمكنت من ذلك وها هي تعمل، فلا يملك الحاجز الأميركي إلا أن يسمح بالمرور، وإلى أن يتم ذلك فلندعُ الله أن يجنبنا المفاجآت.