خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

منتهى الكرم

سمعنا الكثير من الحكايات عن الكرم العربي. منها حكاية حاتم الطائي الذي ذبح حصانه النفيس، وربما الوحيد لإطعام ضيف قصده من دون موعد أو استعداد. الحكايات كثيرة والمعتاد في أكثرها أن الأمير أو الوالي «يخلع» على ضيفه. بيد أنني وجدت في الحكاية التي سمعتها قبل سنوات أروع ما قيل في هذا السياق.
كان هناك مراسل صحافي يزور بغداد قبل سنوات، سنوات ما بعد التغيير أو الغزو أو السقوط، سقوط بغداد، عام 2003. ولكل امرئ تسميته لذلك الحدث التاريخي. راح الصحافي يدور ويسمع ويصور بمساعدة دليل محلي يعرف اللغة الإنجليزية. لاحظ الفقر والحرمان المخيم على كل جوانب الحياة. انتهت المهمة وعقد الرجل عزيمته على السفر والعودة من حيث أتى. أخبر دليله الشاب معتذرًا ودفع له حسابه.
خطر للدليل الشاب، وقد انتهت المهمة وأوشك الصحافي على مغادرة المدينة، أن يستضيفه في بيته. تهللت أسارير الرجل لهذه الدعوة، فقد كان حريصًا على دخول أحد بيوت المواطنين ويرى أحوالهم المعيشية، وما في بيتهم من متاع الحياة. بعد تناول ما تيسر من قليل الزاد والشراب، استأذن المندوب الأجنبي لمشاهدة ما في البيت من أثاث قليل، فأصيب بصدمة مما رأى من حالة البؤس والنقص في البيت الذي لم يكن في الواقع يستحق بأن يوصف بأي شيء غير خرابة متداعية، ومع ذلك وعلى هذه الجدران الخربة لاحظ الرجل التصاوير الملصقة على الجدران، وكان أكثرها لممثلات وممثلين من نجوم السينما الغربية، بيرغمان وأولفيه وتريسي... الخ، ونجوم كرة القدم لفريق مانشستر يونايتد الانجليزي. استغرب المراسل الصحافي مما رأى. لم يفطن له أن ما رآه كان إشارة رمزية لقرف دليله الشاب من بلده وتطلعه إلى الهجرة للغرب.
وفيما كان ينظر حوله، رأى شيئًا من القماش الأبيض معلقًا على مسمار مدقوق في الغرفة. أدرك أنه لم يكن مجرد قماش وإنما حلة للباس رجل مما رآه كثيرًا على الباعة وبسطاء الناس في السوق. سأل الدليل عما يفعل بذلك، معلقًا على مسمار. أجابه أنه دشداشة، إنها الدشداشة، أو الجلابية، التي يلبسها داخل البيت وعندما يأوي إلى النوم ظهرًا وليلاً. إنه يلبس الثوب والبنطلون عندما يخرج للعمل، ويلبس الدشداشة داخل بيته. نزعها من المسمار ليفرجه عليها. كانت مزينة ببعض النقوش. نظر فيها الأجنبي، وكأجنبي عبر عن إعجابه بها وبنقشتها، من باب المجاملة حتمًا. فليس في الدشداشة ما يلفت النظر.
شكره على ضيافته واستأذن بالانصراف والعودة لفندقه. ولكنه وهو على الباب، رأى الدليل وهو يسلمه كيسًا بسيطًا. ما هذا؟
- هدية بسيطة يا سيدي أعجبت بها. خذها لبلدك لتذكرك بنا.
اعتذر عن عدم قبولها. «هذا ثوبك الوحيد. كيف آخذه منك؟ ما الذي تلبس عندما تنام؟».
ولكن الدليل أصر على إعطائه الهدية، على خلعها عليه، عارفًا بأنها دشداشته الوحيدة ومن دونها سيجلس في البيت وينام عريانًا! هل بعد ذلك من كرم؟