خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

عالم صغير

أول ما ينبغي علينا من الإصلاح إصلاح اللغة. وأول ما ينبغي إسقاطه منها كلمة «عالم واسع»، واستبدالها بكلمة «عالم صغير»، عند الإشارة إلى عالمنا المعاصر. فتطور المواصلات والاتصالات ألغى المسافات. كثيرًا ما يفاجئنا هذا العالم الصغير بمواقف تذهلنا. كنت في قرية اسكوتلندية نائية عندما لاحظ أحدهم سحنتي السمراء فاقترب مني وسألني عن أصلي. لم أشأ أن أذكر العراق فيدخلني في مناقشات عن صدام حسين، ولا أن أذكر بغداد فيسألني عن ألف ليلة وليلة. ولا أن أقول إني عربي فيشير إلى إسرائيل، ولماذا علاقاتكم ببعضكم بعضا هكذا، لماذا ولماذا. فكرت بكلمة تحسم الموضوع. قلت له أنا من الكرخ. وإذا بأساريره تتهلل «أوه! الكرخ! بغداد! أنا أعرف الكرخ».
راح الرجل العجوز يصف لي بعربية مكسرة المحلة التي ولدت فيها، سوق الجديد، وأعرفها كراحة يدي. كان هناك مع الجيش البريطاني أثناء الحرب العالمية. تحمّس في ذكرياته فانطلق يغني بلهجة ما أنزل الله بها من سلطان، ونغمة ما سَمع بمثلها حتى هؤلاء المطربين المحدثين، أغنية «ربيتك صغيرون حسن». ثم مدّ الشيخ ذراعيه وقال: «هل تعلم؟ لا يوجد في كل اسكوتلندا رجل واحد ولد في الكرخ غيرك. ولا تجد بين كل الشعب الاسكوتلندي رجلا غيري يستطيع أن يغني «ربيتك صغيرون حسن».
ذهبت مع ابني آدم إلى مصر بعد بضع سنوات، وخطر له أن يستأجر وصديقته جملاً ينقلهما إلى سقارة. وفيما كانا في وسط الصحراء لمحا جملاً آخر ينطلق نحوهما في سحابة من الغبار من الأفق البعيد، يحمل رجلاً بدويًا مسلحًا. ارتعد آدم ذعرًا من هيئته، واعتقد أن نهايته قد حلت على يد هذا البدوي الملثم. ما إن صار بجوارهما حتى أماط اللثام عن وجهه ومد يده في جيبه، وأخرج ما حسبه آدم مسدسًا لقتله. ولكنه كان مجرد هاتف جوال. سأل آدم: «تعرف يا ولدي نمرة كود التليفون لمدينة مونتريال في كندا»؟ خطر لي أن أخبر شركة التليفون بالحكاية ليحولوها إلى أحسن إعلان لاستعمال الجوال. وهو ما أسوقه لكل شركات الجوال.
لعل أكثر القراء يعترفون بمساهماتي في عالم الصحافة والأدب والفن وربما السياسة، ولكنني لا أعتقد أن أيًا منهم يعرف أي شيء عن دوري في تطوير الصواريخ المصرية، صواريخ عبد الناصر. هذه صفحة حافظت على كتمانها كل هذه السنين الطويلة لحساسيتها وسريتها.
ولكنني أعتقد أن الوقت قد حان الآن للكشف عنها حفظًا للتاريخ.
كنت جالسًا أمام بحيرة المدينة الألمانية الصغيرة هولزمندن أطعم الوز عندما بادرني رجل مهيب وسلم علي بالعربية «السلام عليكم». استرخص للجلوس بجانبي وراح يكلمني باللهجة المصرية. قال إنه ما زال ضعيفًا فيها. أفهمني بأنه يعمل مع القوات المسلحة المصرية وكان في عطلته الصيفية. لبيتُ طلبه بمساعدته في إتقانها. لاحظت أن معظم الكلمات التي طلب مني مرادفاتها تعلقت بالفضاء والصواريخ. كان أحد الخبراء الذين عملوا في تطوير صواريخ عبد الناصر. بذلت جهدي لمساعدته، لكنني أعتقد الآن أن من أسباب فشل هذه الصواريخ كان دوري في تعليم هذا الرجل. فما وضعت يدي في شيء، اعتبارًا من طبخ الدولمة إلى الدعوة للديمقراطية في العراق، إلا وخربته.