روبرت كاغان
TT

كيف تصل الفاشية إلى أميركا؟

تعد محاولة الحزب الجمهوري التعامل مع دونالد ترامب على أنه مرشح سياسي عادي محاولة مثيرة للضحك، إن لم تكن تشكل خطرا على الجمهوريين أنفسهم، فإن أعرب الرجل، مؤكدا فحسب، على مبادئ الحزب الذي ينتمي إليه، لكفاه ذلك كل شيء.
ومع ذلك، فإن ظاهرة ترامب لا تمت بأي صلة للسياسية أو الآيديولوجية، كما أنها لا تمت بصلة للحزب الجمهوري، فيما عدا دورها التاريخي بصفتها حاضنة لذلك التهديد الاستثنائي للديمقراطية الأميركية. فقد تجاوز ترامب الحزب الذي أخرجه لنا، ولم يعد الجيش الغفير من مؤيديه يـأبه بالحزب؛ لأنه لم يحتضنه بشكل كامل وفوري، وبسبب قلة أعداد السياسيين والمفكرين البارزين ممن لا يزالون يقاومونه. وبالتالي، ينظر أتباع ترامب للحزب بعين الريبة والعداء، فولاؤهم له وحده فحسب.
ما مصدر ذلك الولاء؟ من المفترض أن نعتقد أن دعم ترامب ينبع من الركود الاقتصادي أو الاضطرابات. وقد يكون بعضها صحيحا، لكن ترامب لا يعرض على أنصاره حلولا اقتصادية، فوعوده تتغير بصفة يومية. فكل ما يعرضه هو سلوك، وهالة من القوة غير الناضجة، ورجولة مفرطة، والتباهي بعدم احترام كمال الثقافة الديمقراطية، التي يدعي، ومعه أتباعه، بأنها خلفت ضعفا وطنيا وعدم كفاءة.
وثمة عامل مشترك واحد في تصريحاته غير المتناسقة والمتناقضة، وهي أنها تحرض وتلعب على مشاعر الاستياء والازدراء بالتداخل مع شيء من الخوف والكراهية والغضب. ويتكون خطابه العام من الهجوم والسخرية من قطاع عريض من «الآخر»، سواء أكانوا مسلمين، أم أميركيين من أصول لاتينية، أم نساء، أم صينيين، أم مكسيكيين، أم أوروبيين، أم عربا أم مهاجرين أم لاجئين؛ فهو ينعتهم جميعا بأنهم إما مصادر تهديد أو مواد للسخرية. كما يتكون برنامجه في الأساس من وعود باتخاذ مواقف صارمة من الأجانب وغير البيض، بأنه سيرحلهم أو يضعهم خلف القضبان، أو يحمّلهم على الإذعان، إضافة إلى جعلهم يدفعون الثمن، أو أن يخرسهم.
جدير بالذكر، أن تلك الخشونة وذلك النهج المتشدد أكسب ترامب شعبية كبيرة متزايدة بحماس، والتي في الغالب أثارت دهشة ترامب نفسه قبل أي شخص أخر. ببساطة، ترامب «مغتر بصلف» بكل ما في الكلمة من معنى، إلا أن الظاهرة التي شكلها أصبحت شيئا أكبر منه، وأكثر خطورة إلى حد بعيد.
ويتعجب السياسيون الجمهوريون كيف أنه، وحتى هذه اللحظة، تمكن من «جذب» ذلك القطاع غير المعروف من جمهور الناخبين. ولكن ما تمكن ترامب من جذبه، هو أكثر ما كان يخشاه مؤسسو الحزب الجمهوري الديمقراطي، متمثلا في: إطلاق العنان للأهواء الشعبية، أو ما يسمى «سيطرة هوى الشعب». ولطالما حذر المحافظون لعقود طويلة من الحكومات التي تخنق الحريات، لكن ثمة تهديدا آخر للحرية، حذر منه ألكسيس دو توكفيل والفلاسفة القدماء، يتمثل في أن الشعوب التي تحيا في ظل الديمقراطية قد تستولي على المؤسسات التي أُنشئت للحفاظ على الحريات، مدفوعة بالغضب أو فرط التحمس والخروج عن السيطرة. وكما تكشفت نتائج الثورة الفرنسية أمام ناظري ألكسندر هاملتون، فقد خشي أن تشهد أميركا نفس ما آلت إليه الأوضاع في فرنسا، بمعنى أن إطلاق العنان للأهواء الشعبية قد يفضي إلى وصول طاغية يتسلق إلى السلطة فوق أكتاف الشعب، بدلا من أن يفضي إلى مزيد من الديمقراطية.
وقد نشأت هذه الظاهرة في البلدان الديمقراطية وشبه الديمقراطية عبر القرن الماضي وسُميت بـ«الفاشية». ولم تكن للحركات الفاشية أي آيديولوجية متسقة؛ فهي لا تمتلك وصفات ناجحة لمشكلات المجتمع، وبالمثل: «الاشتراكية الوطنية» هي حزمة من التناقضات، تجمعها في المقام الأول ماذا ومن تعارضه، فلطالما كانت الفاشية في إيطاليا معادية لليبرالية والديمقراطية والماركسية والرأسمالية، ومعادية لرجال الدين. ولم تتمثل الفاشية الناجحة في سياسات، بل تمحورت حول رجال أقوياء وزعماء (الدوتشي أو الفوهر) ممن يُعهد إليهم بمصير الأمة بأكملها. وأيًا كانت المشكلات، فبيده حلها، وأيًا كان الخطر خارجيا أم داخليا فبإمكانه دحره، وليس من الضروري أن يشرح كيف. واليوم، توجد مثلا النزعة البوتينية (نسبة إلى فلاديمير بوتين)، والتي لا صلة لها بالمعتقد أو السياسة، بقدر ما تتعلق بالرجل الصلب الذي يدافع عن شعبه بمفرده ضد جميع المخاطر الأجنبية والمحلية.
وللتمكن من فهم كيف استولت تلك الحركات على الديمقراطية، ما على المرء سوى متابعة الحزب الجمهوري اليوم. حيث إن تلك الحركات تقوم على مداعبة كل المخاوف ومشاعر الغرور والطموحات وعدم الشعور بالأمان التي تخالج النفس البشرية. وفي الديمقراطيات، أو على الأقل بالنسبة للسياسيين، كل ما يعنيهم هو ما يريده الناخبون، ومن ثم فالحركة السياسية الجماهيرية قوية، وتعد سلاحا مخيفا بالنسبة لمن يعارضونها. وعندما تسيطر عليها أو يوجهها قائد واحد، يمكن أن تُستخدم ضد أي شخص يستهدفه الزعيم، فإن انتقد أحدهم القائد أو عارضه، بصرف النظر عن حجم شعبيته أو إعجاب الشعب به، وحتى إن كان بطل حرب شهيرا، فإن تهكم الزعيم منه أو سخر من بطولته، سيتبعه أنصاره ويسخرون منه. وإن كان يشغل أعلى الرتب بالحزب، لكن تردده في دعم الزعيم قد يكون بمثابة الانتحار السياسي له.
وتواجه كل شخصية سياسية، في مثل ذلك المناخ، خيارا قاسيا: إما أن تتوافق مع الزعيم وجماهيره، وإما أن تتعرض للمشكلات والمتاعب. وينقسم السباق البشري في مثل تلك الظروف إلى فئات يسهل التنبؤ بتصرفاتها، ومن أبرزها فئة السياسيين الديمقراطيين. وهناك من يدفعه طموحه للقفز انضماما إلى «جوقة المؤيدين»، على أمل أن يكافأ بوظائف مرموقة. وهناك أيضا من لا يطمح بأكثر من البقاء على قيد الحياة، فلن تسمح له ضمائرهم من التملق بلا خجل، ومن ثم فهم يتمتمون بتعهدات الدعم دون وضوح كضحايا في محاكمات ستالين الصورية، غير مدركين أن القائد وأتباعه سينالون منهم في نهاية المطاف على أي حال.
وسيخدع الكثير منهم أنفسهم، رافضين الاعتراف بحدوث شيء شديد الاختلاف عن السياسة المعتادة، مصرين على ترك العاصفة تمر، وبعد ذلك سيتمكنون من التقاط باقي القطع وإعادة بناء الأوضاع إلى ما كانت عليه في المعتاد. وفي الوقت نفسه، فهم لا ينفرون من الجماهير المؤيدة للزعيم، فهم في النهاية ناخبون، وستتم الحاجة إلى إعادتهم للحظيرة. أما بالنسبة لترامب، فدعونا نسدي إليه النصح والمشورة ونرشده إلى الاتجاه الصحيح.
ما لا يدركه هؤلاء، وما لن يدركوه، أنه بمجرد وصوله إلى الحكم، فلن يكون مدينا لهم أو للحزب بأي شيء، فسيمتطي صهوة الحكم رغم الحزب، ويطير إلى البيت الأبيض بجماهير كرست له فقط، وبحلول ذلك الوقت ستتزايد جماهيره بشكل كبير. اليوم، صوت أقل من 5 في المائة من الناخبين لصالح ترامب، ولكن في حال فوزه بالانتخابات، فمن المرجح أن تنضم غالبية الأمة إلى جماهيره الغفيرة، ولك أن تتخيل حجم القوة التي ستكون بين يديه. وبالإضافة إلى كونه زعيما يحظى بتأييد الجماهير، ستكون في يده أيضا السلطات الهائلة التي تمتلكها الرئاسة الأميركية على وزارة العدل ومكتب التحقيقات الفيدرالي والاستخبارات والجيش. فمن ذا الذي يجرؤ على معارضته إذن؟ ليس الحزب الجمهوري بالتأكيد، الذي رضخ أمامه حتى عندما كان ضعيفا نسبيا. وهل يمكن لرجل مثل ترامب، عندما يمتلك سلطة لا حدّ لها بين يديه، أن يزداد تواضعا أو حكمة أو سخاء، أو حتى أقل انتقاما مما هو عليه اليوم، أو مما كان عليه طيلة حياته؟ هل تحدّ السلطة الواسعة من الفساد؟
وتلك هي الكيفية التي تأتي بها الفاشية إلى أميركا، ليس عبر رتب عسكرية أو تحيات عسكرية (وإن كانت هناك تحيات عسكرية ونفحات من العنف)، ولكن من خلال بائع تلفزيوني متجول، وملياردير زائف، وشخص يعاني تضخم الأنا «يستغل» الاستياء الشعبي وانعدام الأمن، مدعوما بحزب سياسي وطني، إما بسبب الطموح أو الولاء الحزبي الأعمى أو بدافع الخوف لا غير.
*خدمة «واشنطن بوست»